هذه هي جدران السجن، وتَشقُّقات الحائط تسمحُ بتسرُّبِ الحنينِ من مساماته.. هو الحبُّ، ذلك الفُندق الواقع في ذاكرتنا، والذي نهربُ إليه إذا ما لاحقنا الفراغ.. هو الحنين المُشتَهى، هو ليلُ هذا السّجين بلا سبب..
على الجدران تجد الشيء وضِدَّهُ، كلماتٍ ثوريَّة، رسوماتٍ وطنيَّة، ألفاظًا إباحيَّة، ورسوماتٍ ساخِرة..
قد يكون هذا المكان سجنا وقد يكون معتقلا، يَرجِعُ توصيفَهُ إلى الخلفية التي تسبّبت في الاعتقال..
يتأملُّ يوسف الجدران، وكأنَّ الخطوط والتَّشقُّقات تتحوَّلُ لشيءٍ ما، لرسمةٍ أو صورة، لشيءٍ مُرتبط في أعماقه، تدفُّقٌ من أحابيلِ وجعِهِ، فأخذت مخيَّلتِهِ تحوِّلُها لحالةٍ مرئيِّةٍ. وما إن اكتملت الصورة على الحائط، حتى فَزِع وعاد بظهره إلى الوراء..
صورة مريم، وابتسامَتُها الخجولة في المسرح، وحالة اللامبالاة التي تحترفُ أداءها أمامه، ثم تتحوَّل ابتسامتُها تدريجيًا إلى نظرة فزعٍ، خوفٍ كأنها ترى شيئًا مرعبًا أمامها لا تقوَى على أيِّ ردة فعلٍ غير أنَّ عبس وجهَهَا خوفًا..
التفت يوسف إلى الجدار الآخر الذي تحوَّل نظرُ مريم إليه، فتصبَّبه عرقُ اللحظة والخوف من تلك الصورة على الجدار، التي أحسَّ أثرها بانقباضِ قلبه..
***
الجامع الأبيض تأسَّس عام1952، ويقع في مخيَّم الشّاطىء. مسجدٌ بديع، فأهل المخيم أسخياءٌ في التبرع للمساجد، لا يختلف أحدٌ على ذلك. بناءٌ رائع، لا يشبِه أبدًا في بنائه الطراز العشوائيِّ لمباني المخيم.
يقع المسجد بجوار سوق معسكر الشّاطىء، بالقرب من البحر مسافةَ احتساءِ فُنجان قهوة، تحلِّق مأذنته بشموخٍ في السّماء، تراها من كل نوافذ البيوت، تحيطُ فوضى المخيّم بالمسجد، وسوقٌ عشوائيٌّ، وضجيجٌ متراكم على مسامع الناس، ولا يزال التراكم يزداد مع كلِّ بائعٍ متجوِّل يبسِطُ عربته، وكل سيَّارة تزيدُ من عُمر زحام الشارع سنة، وكلُّ مَنْجَرَةٍ وحداد، وكلُّ ما يتسعُ الخيال لاستيعابِهِ من معنًى للزحام والضجيج.
لكنّك حينما تدخُل المسجد، تشعر أنّك خرجت من فصلٍ لفصل، أو من مناخٍ لمناخ، كأنَّك للتوِ نجوتَ من عاصفةٍ بحريّة ورَسَوْتَ على جزيرةٍ هادئة، سَكَيْنةُ الجامع تتغلغلُ في قلبِك منذ خطوتك الأولى على سلّم المسجد. الحالةُ الفوريَّة للتنقل ما بين حالة حربٍ وسلام، تُصُيب ملكوت القلب بحالةِ استرخاءٍ فريدة، فترى القلب يتمرّد على صمتِهِ وتَخْرُجُ من اللسان تمتماتٌ إيمانيّة من عمق الفطرة والحاجة الدائمة لوجود الله إلى جانب الإنسان.
الزّخرفات الإسلاميّة داخل المسجد أنيقة، توازنٌ تامٌ مع كل العناصِرِ المعماريّة في هذا الصرح، الكتابات الإسلامية على الجدران بالخطِّ الكوفيِّ والفارسي، تتألَّق بمُنْحَنَياتِها وانسِيابِيَّتها مع قُدسيَّة الكلمات وأسماء الله الحسنى ونبيِّه الكريم. إدارة الجوامع كانت في تلك الفترة تحت إشراف وزارة الأوقاف، لكنّها بشكلٍ أو بآخر كانت تحت تصرُّف التَّنظيمات الإسلامية، وكان هذا المسجد محطَّ تنافسٍ بين التَّنظيمات في النشاطات التي يفرزُها للمصلين.
يكون المسجد عادةً عامرًا بروّادِهِ حتى في غير أوقات الصلاة، فلكلِّ جامعٍ فريقٌ رياضيٌّ، ولجانٌ مختلفة -سواء كانت ثقافيَّة أو لجانٌ لإقامة الرحلات الترفيهية- وهذا ما يَستقطب روادًا أكثر للمسجد. وما تتميَّز به ثقافة الشعب الغزّيِّ شعوره التنافسيِّ الفطريِّ بالرغبة في التميُّز على مختلف الأصعدة، سواء كانت الثقافيِّة أو الدينيِّة أو الترفيهيّة، فتجد الكثير في أوساط الشباب يتنافسون على ألقاب القيادة "مسؤول خليَّة، مسؤول فرع، مسؤول لجنة،.. الخ"..
بعد صلاة العصر، كان يجلس مصطفى، الأخُ الأكبر ليوسف، في الركن الأيمن بجوار الباب الجانبي، الذي يُشرف على مركز شرطة الشاطئ، يتحدث مع مجموعةٍ من الشّباب عن أهميّة الدور الإعلامي للتنظيم، وعن فلسفته في نشر البيانات العسكرية والأخبار المرتبطة بالفكر الأيدُلوجيِّ للتنظيم، والنواحي الإيجابيَّة على الصَّعيد النفسي، التي تخدم أفكار التّنظيم من خلال نشر الإشاعة.
مصطفى يتمتَّع بكاريزما قياديِّة مُختلفة، لم يكن يُشبه باقي أعضاء التّنظيم، فقد كان يهذِّبُ لِحيتَهُ، هو جريءٌ وقويُّ الشّخصية، يتمتَّعُ بقدرةٍ فائقةٍ على الإقناع، واستيعابِه لفلسفة التّعامل مع فنون الإشاعة وصناعَتها واختيار الوقت المناسب لنشرِها، سواء كانت إشاعات تدعو للتفاؤل الشّديد، أو تلك الإشاعات التي تُصيب الناس بحالةٍ من الإحباط والخوف.. يَفهم جيدًا خيوط المُؤامرات وحبكتها، ويعرف كيف يُشعل الأزمات، ويَعرف جيدًا كيف يُطفِئُها.
مصطفى كان في هذه الفترة يقود إدارة الحملة الانتخابية في منطقة غزة بشكل عام، وبوجه خاص منطقة الشيخ رضوان، الشمالي، الشاطئ، تل الهوى، الرمال والنصر.
وخلال حديثه مع باقي أعضاء المجموعة المُحاطِ بها، سمع أصوات موكب العقيد نبيل إلى مركز الشرطة، وانتشارِ العديد من عناصر الشرطة حولَ المسجد، بشكل لم يكن لافت لنظر المارة. كان لديهم معلومات بوجود مصطفى داخل المسجد، فدخل عدد من أفراد الأمن الوطني بلباسٍ مدنيٍّ للمسجد، وبدأوا بتفتيشه، وباقي عناصر الشرطة تقفُ مراقبةً مخارج الطرقِ المحيطة بالمسجد. وبعد مرورِ أكثر من ساعة، خرج أحد أفراد الأمن الوطنيِّ إلى مركز الشرطة، حيث يجلس العقيد نبيل في مكتب مدير مركز الشرطة، وأخبر العقيد باعتقال خمسة أشخاص، مصطفى ليس منهم..
***
أفاقت مريم من غفوةِ يقَظَتِها، مُنتعشة بما تشربتْهُ للتو من الحنين، أفاقت من ذكرياتها وعادت لواقع اللحظة، طرقت سكرتيرةِ مكتبِها البابَ عليها ثم دخلت:
- القاعة جاهزة والحضور اكتمل، والضيفُ وصل للتوِّ وهو على السلم.
بشيءٍ من الشرود أجابتها:
- من؟ أها.. لماذا لم يصعدْ المصعد؟
- لا أدري، ربما يعاني من فوبيا المصاعد، مثلما يعاني من فوبيا الحلاقين.
ضحكت مريم وقالت لها: أنا قادمة. وعندما ذهبت سكرتيرتها، توقفت للحظة عند الباب، واستدارت ونظرت لمريم قائلة:
- هل كل أمورك على ما يرام؟
- نعم بالطبع، وهل يبدو عليَّ غيرُ ذلك؟
- أبدًا، لكن يبدو أنَّ مَزاجَكِ مُعتدلٌ اليوم، فنظرة السعادة التي تختَزِلُها عينيْكِ أعرفها جيدًا، هل أنت...
وقبل أن تكمل حديثها قاطعتها مريم:
- لا ليست تلك التي تعرفينها "بكيير كتير"..
غمزَتها السكرتيرة وخرجت، عندما تأكدت أن عينيها تقول غيرَ ذلك، فالنساءُ أكثر دِرايةً بأمور الكذب الأبيض بين بعضهن البعض..
مقر جمعيِّة مريم يعكُس مدى اتساع علاقات مريم، فالتأثيثُ الباذخُ للمكان يدلُّ على حجم العطاء والتمويل الذي تحصلُ عليه، تقع الجمعية في الشارع الموازي لشارع رشيد، على مسافة صغيرة من ميناء غزة، ويمكن لمريم أن تُشاهد مشهدًا رائعًا من نافذة غرفتها الكبيرة.. بحرُ غزّة، والسفنُ المُترامية التي لا تتحرَّك، ومراكب الصيد، والفنادقُ والمطاعمُ المُتَراشِقَة على صفِّ الشاطئ. اعتادت مريم أن تضعَ أزهارًا مميَّزة على نافِذتها، لكي يتقاطع مَدَى المشهدِ البحريِّ لبحر غزَّة مع أزهارها الخاصة، بحيث تكتمِلُ عناصر الجمال في منظورِها. أينما تجد مريم، تجد الورق مرافقًا لها، يحطُّ بالقربِ منها كحمامةٍ اهتدَت لبيتها.
اللقاء الذي سوف تُديرُه اليوم مريم مع الضيف الدكتور ماهر أحمد، عميد كلية العلوم السياسيَّة في جامعة الأزهر، وعضو المجلس التشريعيِّ في البرلمان الفلسطيني، كان تحت عنوان "المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينيَّة في العمل الوطني".
بدأت مريم اللقاء مرحبةً بالدكتور ومعرِّفةً به، ثم تحدثت عن الحجم المتواضع لمشاركة المرأة في الشأنِ السياسيِّ على الساحة الفلسطينية، وأشادت بالدورِ النّضاليِّ للمرأة في القضيَّة الفلسطينيَّة، ثم أعطت الكلمة للدكتور ماهر، والذي تطرق فيها أيضًا للحاجة إلى توسيع دائرة العمل السياسي للمرأة، وضرورة الخروج بتوصِيات تَصِلُ إلى الحد الذي يُرضي طموحات المرأة الفلسطينيَّة في الساحة السياسيَّة.
كان حديثًا مقتضبًا، كأنَّه أسطوانة تسجيليَّة. فُتِحَ بابُ النقاش مع الحضور، كان أغلب الحضور من النساء، بعضُهِن حاول تحجيم دور المرأة من منظورهِن الدينيِّ، وحاولت أحداهن الاستنادّ في ذلك على الحديث النبوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم "لن يفلحَ قومٌ ولٌّوا أمرهم لامرأة" وأوضحت بناءً على ذلك أن لا يحقُّ للمرأة العمل بالمناصِب القياديَّة العظيمة. اشتبكت في تأويل الحديث معها ناشطةٌ اجتماعيةٌ عارضَتها بشدةٍ، وقالت موجهةً كلامها للجميع، إن هذا الحديث الشريف له واقعةٌ تاريخيّة، ويُعتَبر حديثًا إخباريًا وليس إنشائيًا بالنظر إلى محتواه التاريخيّ، إنَّ حديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم له علاقة بفعلٍ سياسيٍّ، فقد كان الرسول الكريم قد بدأ مراسلة قادة العالم للبدءِ في الدعوة إلى الدين الاسلاميِّ، وبالطبع كان من أولئَك القادة كسرى الثاني ملك الفرس، والذي مزَّق الكتاب الذي بعثَهُ النبي صلى الله عليه وسلم ليَدْعُوَهُ هو وقومه إلى الإسلام، فدعا عليه الرسول: "مزَّق الله ملكه"..
وبعد مرور فترةٍ من الزمن، وصل إلى مسامع الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ كسرى قد مات، ووَرثت ابنتُه بوران المُلك، فقال الرسول: "لن يفلح قوم ولُّوا أمرهم لامرأة".
لم ينجُ أحدٌ من هذا الحوار، واشتدَّ تعصُّبُ النساء ضد النساء، مما اضطر مريم لإنهاء الندوة، وطلبت من الحضور التوجُّه إلى القاعة الثانية لتناولِ وجبة الغداء.
ثم ذهبت إلى مكتبها مع الدكتور ماهر، وتبادلا حديثًا مقتضبًا روتينيًا عن إمكانيَّة تنفيذِ مشاريعٍ لتوسيع مشاركة المرأة في العمل السياسيّ، وبعد انتهاء الحديث، أعطت مريم شيك بمبلغ 500 دولار أمريكي إلى الدكتور، نظيرَ مشاركته في الورشة!
***
حلَّ الغروب ضيفًا على سماء المخيَّم. بعد واقعة الاعتقال في المسجد الأبيض، جاء الغروب بصحبةِ رفيقٍ ثقيلِ الظل.
لم يلحظْ أحد من سكان المنطقة المُجاورة لمركز الشرطة غارة الشرطة على المسجد واعتقال خمسةِ أشخاصٍ من داخل المسجد. خلالَ عشرةِ دقائق، انتشر العشرات من أفراد التّنظيم حول مركز الشرطة، أغلقوا كل الشوارع المؤديّة إلى المركز، واختفى زحام الناس كليًا مع أول دقيقة من وصولِهم، وبدأ تبادلُ إطلاق النار مع المركز. أغلق أفراد الشرطة بوابة المركز، واختبأ كل العناصر داخله. جميعُ الأسلحة الموجودة داخَل المركز لا تساوِي شيئًا أمامَ الأسلحة التي يحمِلها أفراد التنظيم.. تبادل الطرفان إطلاق النار، التنظيم يُطلق النار من على الأرض، والشرطة تطلق النار من على سطح المركز ومن نوافذه الصغيرة.
مرت أكثر من رُبع ساعة على تبادل إطلاق النار، ثم جاءت سيارة جيب مسرعة تابعة للتنظيم، ووقفت في منتصف الشارع المقابل للمركز، ونزَلَ منها شخصٌ يحمل قاذفًا صاروخيًا، أطلق منه على سور المركز، فتسبب بفتح فجوةٍ قطرها أكثر من مترٍ ونصف، ومقتل مساعد كان يطلقُ النارَ من خلف نافذة صغيرة تُستخدم للدفاع عن المركز.
بعدها طُلب من أفراد التنظيم إيقاف إطلاق النار، وعلى إثر ذلك أوقفت الشرطة إطلاق النار.
نادى أحد قادة الهجوم من التنظيم بالمايكرُفون قائلًا: "خلال خمس دقائق، إذا لم يتمَّ الإفراجُ عن المعتقلين الذين اعتقلتُموهم ظهر اليوم، سنقوم باقتحام المركز. وبدأ في تسمية المعتقلين واحدًا تلو الأخر ".
ظهر أحد عناصر الشرطة على سطح المركز موافقًا، وطالبًا منهم إيقاف إطلاق النار، مقابل إخلاء سبيل المُعتقلين، وكرَّر نداءه عدة مرات....
خرجت مريم بسيَّارتها، بعد انتهاء الندوة في الجمعية، لترتشف قهوتها في مطعم اللوتس. روَّاد هذا المطعم غالبًا هم من طبقة الأثرياء ورجال الأعمال والسلطة، فهو يبعد مسافة أغنيةٍ قصيرة عن بيت الرئيس الفلسطيني، ولا يبعد كثيرًا عن شاطئ البحر. ركنت سيارتها من طراز "جولف" أمام المطعم، وألقت التحيَّة على الحارس، ثمّ أعطَتهُ مُفتاح السيَّارة، وطلبت منه أن يغسِلَها بينما ترتشِّف فنجان قهوتها.
مطعم اللوتس مُختلف من حيث الشَّكل والروَّاد، تُحيطه الأشجار والزهور من كلِّ صوب، وغالبًا تلك الأزهار المزروعةُ على أسوارِه مُستَورَدة وليست أزهارًا محليَّة، رُغم أنَّ قطاع غزَّة يصدِّر لأوروبا الأزهار والتوابل والفراولة. المطعم مُصمَّمٌ على الطراز الإنجليزي، تُديره سيِّدَة أعمال فلسطينيَّة، وأغلب الموظفين القائمين عليه هم من عائلتها، لذلك لن تجدَ أيَّ إهمالٍ في أناقة المكان.
ذهبت مريم إلى الطاولةِ المحجوزةِ دائمًا لها، فسبقها النادل وسحب الكرسيَّ لتجلس.. شكرته، وطلبت مِنه قهوَتها السَّمراء، أو قهوة يوسف الكادح.
كان يوسف على علاقة دائمة مع مريم منذ طُفولتِها، فوالده كان يعملُ دائمًا لحساب عمها، قبل أن يستشهِد أثناء عمله.. كان أبو يوسف جالسًا مع أحد القياديين، عندما أرسلت إسرائيل طائِراتِها لاغتياله. كانا يخطِطَان لبناء منزلٍ لابن ذاك القيادي، وكان يحثُّه على الإسراع، لأن عرسَهُ بعد ثلاثة أشهر.. لم يتمَّ العُرس، ولن يتم.
يوسف كان يلتقي مع مريم كثيرًا في المرحلة الإعداديَّة من دراسته، في جمعيَّة الهلالِ الأحمر الواقعة في منطقة تل الهوى، حيث كانت مريم تدرُس الموسيقى هناك. فمريم صوتها رقيقٌ جدًا، وتجيدُ العزف على الجيتار والأورج. لكن سبب تسجيل يوسف في الجمعية كان رغبته اللانهائية باختلاق الصُدف للقاء مريم. يحاول دائمًا أن يفتَعِل حوارًا معها، وبما أن مريم مُهتمةٌ بقراءة الشعر والأدب، قرر أن يكتب كي يثير إعجابها، وأخذ على عاتِقه هذه الفكرة التي خُلِقَت من عدمٍ، أو من حب.
قاطع النادل شرود مريم مع الموسيقى الأرجنتينية، التي كانت تَهدُل في المكان.. لطالما كانت مُولَعةٌ بها. وأحضر لها القهوة مع قطعة شوكلاتة صغيرة..
دائمًا ما تتأمل مريم فنجان قهوتها.. رُغم أنَّ الكثير من أصدقائها ينتقِدُ إسرافَها في شرب القهوة، فهي تشرب بمعدل أربعة فناجين قهوة يوميًا، في الصباح، في المساء، وأي وقت. في حضرة القهوة، يتلصّص الحبُّ على شرايين القلب والذاكرة، وهذا ما ينتابُ مريم.. الحنينُ المُشتهى جدًا. إن ارتباط الحنين بلحظات الطفولة يجعل من زياراته غير موجِعة، بل خفيفةٍ على القلب مثل خفة النسيم على الخد. تذكَّرت مريم قُصاصات الورق التي كتبها يوسف لكي تُعطيه رأيها بها، أو إن شئتَ قُل كي يبقى على اتصال معها، ويُحدثُّها في أيِّ وقتٍ شاء..
في حالةٍ غير حالةِ مريم، من الصعوبة أن يلتقيَ حبيبان في غزة، لذلك غالبًا ما تجد العشَّاق تربُطُهم علاقةٌ أُسرية، فابن العمِّ واقعٌ في غرام ابنةَ عمِّه، أو خاله... الخ.
تذكَّرتْ يوم قالت له إنَّها تحب موسيقي الثلاثينات، وتحديدًا التانجو الأرجنتينيّ، وترغب بشدةٍ تعلُّمَ تلك الرقصة الأرجنتينية بمصاحبة الموسيقى، فقال لها "كتبت شيئًا عن الرقص الأرجنتينيّ، وسأجلبُهُ لك في المرة القادمة".
يوسف لم يكن يعرف شيئًا عن الموسيقى الأرجنتينيّة، ولا عن تلك الرقصة الغريبة، ولكن أراد بشدَّة أن يُشبهها في كل شيء. لم يكن قد كتب شيئًا بخصوص ذلك، لكن لأجلها يحلو الكذب..
كانت مريم تعيد صياغة كتابات يوسف من غير أخطاءٍ إملائيَّةٍ، فهو محترفٌ في ارتكاب الأخطاء اللُغويَّة الفادحة. لم يكُ يكتب لأجل الكتابة، بل ليقول ما لا يستطيعُ قولَه لها بشكل مباشر. وكانت قد دقّقت لغويًا تلك القصاصة، وأرسلتها لبريدها، مثلها مثل الكثير من القصاصات التي ما زالت تحتفظ بها حتى الآن..
فتحت حقيبتها، وأخرجت اللاب توب. ثم فتحت بريدها، وبحثت في الرسائل المرسلة، إلى أن وصلت إلى إحدى الرسائل التي دقّقتها من قبل. قرأتها، وكانت ترتَسِم على شفتيها ابتسامةٌ لا إراديَّة..
***