الثالوث المحرم!
هذا السرُّ الذي يأخذني إلى التغني بالوفاء، هذا الحب الذي لم تقتل عذريته مقصات الفراق، هو حصيلة انبلاج دم الماضي الرقيق الذي كلما حل ضيفًا على الذاكرة أصاب المشاعر بدغدغةٍ تلطِّف أجواء الحياة، يأخذني على بساط الريح إلى لفحة الربيع الملازمة لكل خريف، لأزهارٍ وأشجارٍ أغصانها القلب تنبت في أيِّ موسم ٍمن حديقة الإنسان للإنسان، تلك الفترة التي أحببتكِ فيها هي ذخيرتي للأمام، لا تصيبني بأجواء الندب والحزن إن حضرت كالنسمة على شريط الذاكرة، بل بفخرٍ مبعثر التكوين من تراب وهواء ونار وماء...
إنَّ الإخلاص آيةٌّ مقدسة أحفظها عن ظهر قلب، فمهما ابتعدتِ فأنا باقٍ على كلِّ جميل أمطرَ القدرُ رذاذه الليمونيِّ على أريج أوجاعي، غلبتْني قسوةُ الفراق بينما عجزتْ أن تغلب قدسيَّتك المرصّنة بأقفال اللازورد والمختومة بشمع الليالي الأخيرة..
تعلَّمتُ من حبِّكِ أن أخلع عباءة الشرقيِّ المنسوجة بكل حبال الوعيد والتهديد بندم ٍخرافيِّ المجاز، كما تعلمتُ احترامَ الظروف التي لم يقوَ فأسها يومًا على هزيمة عقلك المملوء بالحياء..
أطلالٌ من الأعذار أسكبها تحت قدميك، أنا الذي لم أستطعْ إعادة تكوين الطبيعية لأجل قلبك، ولم أستطعْ أن أصارع ثيران التقاليد لأجل أبديَّة الوجود معك..
يأكلني الفكرُ كلَّ ليلةٍ يصبُّ الحنينُ جمره على شغاف قلبي، لكني أقاوم أيَّ وجعٍ ولا أغتاب ذكرك ولا أشوِّه شيئًا من حكايتنا التي يومًا ستصيبها شيخوخةُ العائلة..
هذا الذي أحبَّكِ، لا يفقهُ من حبِّكِ سوى حبًا يجنِّدُ فيه ملائكةَ قلبِه لتحرسَ قلبكِ..
وها أنا سأترك تلك المدينة التي ضاقت بي، تلك الطرقات والأرصفة.. الدكاكين والأزقة.. الحدائق والمقاعِد.. العشّاق والمتسولين … وكلَّ شيءٍ يذكِّرني بك، لأهربَ وأبدأ من جديد..
ليس من الصعب أن أبدأ من الجديد، رغم أني سأترك كل غالٍ على قلبي لأكملَ تلك البداية..
لكنْ يا وجعي من حياة سأبدأها من دونك..
لا ذنب لي في شيءٍ سوى أنِّي ابن تلك المدينة، مدينة باتت تحارب الحبَّ، رغم أنها هي من بثَّته في ضلوعنا..
دعيني لا أخلط الأمور، مدينتنا جميلة، إنّ حالَنا هو المنهك..
ما أقساه من وطن، كلما تعلّقتُ فيه اجتاحهُ احتلالٌ... احتلال أرضٍ، أو عرضٍ، أو مريم..
تلك هي لعنتي .... لعنةُ الثالوث المحرم.
لم تجدْ ما يشبعُ شهيَّتها من إجاباتٍ تشفعُ لها عن جرم السؤال العنيد:كيف يشعرُ بي ونحن بعيدان بمسافة الظروف، تقطعنا حواجزُ الغياب؟.
كان الجواب قريبًا من قلبها، بعيدًا عن عقلها يترنَّحُ بين اعترافٍ فضعفٍ أو إنكارٍ فعذاب، كأن تكون حرًا في اختيارِ أيِّ موتٍ تعيش؛ كانت تستغيث بذاتها الصوفيَّة تناضل، تقاتل، وتمشي بقدميها على قلبها كي لا تعترفْ أنَّه الحب..
لكن ماذا إذا كانت جذور الحبِّ متأصِّلةً في نفسها كشجرة زيتونٍ، أو كجذور الزيزفون!
***
تناول قهوتَهُ، التي لا يثقُ عادةً بأن يعدَّها أحدٌ غيره، تسلَّح بالهدوء، أخذ يرتِّب الطبيعةَ حولَهُ بما يتكيّف مع راحتهِ، وجلس على مكتبه يتتبَّع أخبارها، كما تلاحق أجهزة المخابرات ناشطًا سياسيًا عبر الإنترنت، ويسافر معها من كرسيِّه، خلف شاشةٍ تسرق نصف عمرهِ، لكافة ضواحي الأرض، حتى يكادُ يحفظُ عن ظهر قلب كل حرف انبثق من شفتيها، وكل إيماءة ضعفٍ تصدر عنها.. إيماءاتٌ لا يلحظها غيره..
***
مريم امرأة شرقيَّة، تتمتَّع بكريزما سيدات الأعمال، تدير جمعيةً لحقوق المرأة، وتحضِّر ماجستير في إدارة الأعمال.
سيدةٌ برغماتية بعض الشيء، لا تترك للوقت مجالًا ليتحكَّم بمسار حياتها، لا مساحة للعواطف في جوارحها، وإن وُجِدتْ فستبقى راكدةً ما من أمواجٍ تحرِّكها..
فتاةٌ من الماضي، قلبها من بيئة الجبل، لا يذيبهُ حرُّ الحبِّ مهما اشتدَّ، ولا تجمِّده برودته. ثابتٌ لا تحرِّكه الريح مهما عصفت، ولا يجرفه السيل مهما جرى..
***
كان يمتلك قدرًا من المكر الميكافيليِّ، هو قارئٌ جيد لكل سيدات اللغة، كان يبحث عن حروف القوَّة، ويلوِّن بالقلم الفوسفوريِّ سطور الضعف في كتاباتهن.
هي بالنسبة له أكبر تحدٍ، امراةٌ لا غروب في ملامح وجهها، هي حبُّهُ الأول الذي لم يعترفْ به يومًا، زهرةٌ في أوج نضجها يقف الزمان عند شبابها، لا تذبل ولا يمرُّ الزمن ضدَّ تأنّقها وزينتها.
كان الوقت يمرّ من داخلها ينضج في عقلها لا في شكلها، يكبر في قلبها لا في طفولتها، هي مغرورةٌ على طريقتها..
***
اعتادت على الحذر من التكنولوجيا، تقترب منها بخبثٍ وتأنٍّ كي لا تخرجها من عالمها القديم، تحبّ الأغاني القديمة وتفضّل سماعها من المسجل لا على الحاسوب، تفضّل أشرطة الكاسيت، ولا تحبُّ الأسطوانات المدمجة..
تصون ذكرياتها داخل ألبومها الجلديّ، وتنأى عن استخدام الذواكر الرقميّة، فالصيغ الإلكترونيّة تفقدنا لذّة الماضي والحنين. هي تحبُّ رائحة الكتب، وتفضِّل الكتابة بالقلم الجاف عن لوحة المفاتيح..
عادةً ما يحدّثها الحبُّ سرًا قائلًا: لقد هرمنا، لقد هرمنا من حبٍّ لا أمل فيه!
***
بعد منتصف الليل، كان ينصت لسحر الاختلاف وتثاؤب القمر الذي يضفي على وجهه السكينة.
تناول هاتفه مستندًا إلى طرف السرير، وكتب رسالةً من كلمتين وأرسلها "اشتقتُ لك".
رسالة تنعش الماضي المكبوت، وتوقِظ الحبّ الذي عاش معه منذ الطفولة، حبٌّ أبدع الشاعرُ الفلسطيني محمود درويش في وصفة بثلاث كلماتٍ وحرف:"رُزقتُ مع الخبز حُبّك.."
لم تكُن غايته مضمون الرسالة، بقدر ما كانت تفجيرُ زوبعةٍ من الأفكار، ليثيرَ فيها عواطف كعواصف تحرِّك مياه الحبِّ الراكدة..
***
كان لديها حبٌّ صامت، غير معلن، أقفل صوتَه الكبرياءُ منذ أدرك عقلها الحياة.
لذا اعتادت رؤية الحبّ ضربًا من ضروب الضعف أمام الرجل، تصارعُ ذاتها مرارًا كي تظهرَ بصورة المرأة القوية في ورش العمل المناديَّة بحقوق المرأة، والتي تحرص عادةً على حضورها.
هي ناجحة بالفعل، ولكن نجاحها هو سجنها الأوحد، فكلّما زاد نجاحُها زاد الألم.
تصفيق النساء حولها يخلق في كل ثانيةٍ مسافةَ ميلٍ من الرفض لفطرةٍ طبيعية، تكمن فى تجاذب الجنسين لبعض تحت لحاف الحب.
***
فكّر قليلًا، ثم قرّر إغلاق هاتفهِ ليعذّبها ظنونًا طوال الليل، إن هي أخذت تتصل به..
أكمل ليلته، تحسّس قهوته الباردة آخذًا منها ارتشافة ليخلد بعدها تحت اللحاف، ويشرع كعادته بتأسيس قواعد أحلامه معها
إلى أن ينام..
***
حد التفكير تشتعل، شيئًا فشيئًا صارت كتوصيفٍ لزوبعة، لا تشاء أن تكون وحيدة مع فكرها، تعلم أن الصراع المحتدم ما بين القلب والعقل سيسلب من عينيها النوم، ويلقي بها خارج حدود مملكتها، كان القلب دائمًا مجسدًا بصورة يوسف، لكن عقلها دائمًا يرجح لكفة المجتمع وعائلتها..
اعتادت مريم أن تستمدَّ القوّة من تواجد الآخرين حولها، وضعفها هو وليد الخلوة مع نفسها..
عادت تحدّق بتركيز أكبر في ذكرياتها ببطء، نبشت في تلافيف الماضي، وتلابيب الطفولة، سيف من الحرمان، سهم مناجاة، وحبٍ يخطف ما تتعكّز عليه، حبٍّ يقطف استقلاليتها، ويقصف نصفها. تدفقٍ لحبٍّ عالق منذ الطفولة، شاءت الأقدار أن يغيبَ ثم يعود جارفًا كل الماضي..
ذاك العشق الذي كتب عليه أن يحتضر في رحم شبابه، لو اعترفوا يومًا بالحبّ، لصار أمل اللقاء ميعاد كفر..
***
قسم نصف الليل نومه بحدة التفكير، هكذا يستولي الحب المحرّم والذي تتأرجح فيه الأحلام، ما بين ممكنٍ ومستحيل..
كان يتجنب الوقوع في الهاوية، ويحرص ألا ينقلبَ السحرُ على الساحر..
لم ينجُ هذه المرة بفعلته، استولى على عقله شبح التفكير، وأغار على نومه كجاثوم يعتصرُ صدره.
سأل بضعف لا يلحظْهُ سواه، هل أغوتني من جديد؟!!؟
حينها تمكّنت منه ذاكرته، وعادت به إلى أول لقاءٍ معها، جاء بعد سنواتٍ من فراقها غير المعلن، يوم تركت ذاك الحيَّ الذي يقطن به.
مريم دائمًا ما يضعفُ الضعفُ أمام ضعفِها، وترجح كفّة العقل بفارقٍ كبير عن قلبها، تذكر جيدًا ذلك الجارَ الذي جاور طفولتها واقترب الآن منها محاولًا طيّ مرحلةَ الفراق.
عادت تلتقي به في الجامعة.. هذا الجار صاحبُ غرورٍ مشتهى يجذبها من جديد، وحديث الصبايا في الجامعة يأخذ مساحةً من تواجدها معهن، كان يتعمّد التقرّب من صديقاتِها.
كانت تدرك جيدًا قدرَته على التلاعب بالكلام، بما يشبع شهيّة الأنثى. لم تكُن تنظر إليه سوى أنّه مختلف، وأن صديقاتها متعطشات للحبّ، يتلهّفنَ لرجلٍ يسدُّ رمق الكبت بإيماءةٍ مسروقة، أو حتى بالمزاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق