رواية يوسف يا مريم ( 5 )

 صوتُكِ الأرجنتينيّ..
سنجلس أحرارًا على رصيف شارعِ، في مفاصل بلادي، أسرق لك وردةً حمراء من حديقة الجار، لن يمانع.. أعرف ذلك، قال لي مرة "جمال الورد هذا كلُّه صدقةٌ جاريةٌ على روح زوجتي"..
يتجرأ الحمام ويجلس بالقرب منا يلتقط الحب،..
أقول: "أريد أطفالًا بعدد هذا الحمام"، تضحكين وتُسَّمين كلَّ حمامةٍ كأنّها ابنتك، كأنّها ابنك..
حبيبتي... غنِّي!
دقائقٌ من الخجل، ثم سرعان ما يطرُبُني صوتُك، أرقص التانجو مع صوتك الأرجنتينيّ، وينتهي الحلمُ بيديك تطوِّقان ذارعيَّ وقِبلةٍ وتصفيقٍ حار..
"من أين جاء كلُّ هذا الجمع!" تقولين لي بهمس...
أقول: "أبناؤك يُفشونَ سرَّ الحب...، هذا الحمام رسول الحب"..…"..
كان هذا النص من الكتابات المفضلة، التي تُشعِل قناديل الفرح في قلبها، وإن قرأتْها يتألَّق القدرُ برسم السعادةِ على وجهها. وكانت تلك طريقةُ يوسف في الحبُّ، يكتب، فتقرأ، تعي مَقصَدَهُ، يُفرِج عن قلبه، ويَظلُّ هكذا حُبُهُمَا صامتًا..
***

أفاق يوسف من تلك التَجَمهُرات المُتبعثرة لحُلمِه المُتراكم على الجدران، ربما ما رآه يُعطي تفسيرًا لسبب وجوده في السجن.
عادةً الأحلام -وحسب نظرية سيغموند فرويد- هي نتيجة الصّراع النّفسي، بين الرغبات اللا شعورية المكبوتة، والمُقاومة النفسية التي تقف عائقًا أمام تلك الرغبات.
ربما تكون الرغبة مريم، والمُقاومة النفسيَّة تتمثل في الاختلافات الطّبقيّة أو المجتمعيّة، أو حتى النرجسيّة، بين يوسف ومريم.
لكن ذاك الضيف الذي حلَّ على الحُلم كان عائقًا تراكم فوق عائقٍ، فوق عائق.
لا أحد يعير انتباهًا ليوسف، والده استشهد وأمه ماتت مذ كان طفلًا، وأقاربه يقيمون كلاجئين في لبنان وسوريا والسعودية. أما مصطفى أخوه، فلا يعلم عنه شيئًا منذ بدأ عمله في التنظيم، حيث أصبحت إقامته في كل يومٍ بعنوانٍ مختلف، من شقة لأخرى، ومن خِندقٍ لنفق.
ما تأكد مِنه يوسف في سجنه أنه لم يكن سجينًا، بل هو مُحتجز، ولا تعلم السلطة شيئًا عن وجوده. بلطجةٌ من مسؤولٍ ما، لغرضٍ ليس مرتبطًا بيوسف بعينه، بل بشيءٍ آخر.
توَّقف يوسف عن التفكير بالحلم، وبدأ يتمتم حالته المُزرية ويقول:
هنا مُضجر بصوت شخير الأدوات الحديدية، بجوار حيٍّ تقطُن فيه روحي الضّائعة، وبجانبي ثلاجةٌ تغدو كمنبهٍ لا يغفُو عن تذكيري بأنني ما زلتُ سجينًا.
مروحةٌ تأخذني إلى نوستاليجيا الهيلوكوبتر، صوت الأذان المُضطرب لعشرة مساجدِ في آنٍ واحدٍ، جدرانٌ رماديّة لم تمسَّها الحداثةُ بعد، عصفورٌ يخترق نافذتي، يأخذُ رزقهُ عن الأرض ويمضي.
ذاكرةٌ تختار ما يُعذِّبُها، غطاءٌ قديم للنوم على النافذة يسدُّ ما يسدُّ من فضول الشمس. صوتُ الحداثة والسيَّارات، متلازمًا مع خُطبة الجمعة، قلبٌ يبكي بلا صوت.
خلوة بطعم الزحام، المجد للمتشردين والغجر، المجد لسكان البحار، المجد لمن لم تَغتَصِبُ الحداثة عقله، المجد لمن أصيب بالصمم عن سماع رنين قلبه، والمجد للبليد الذي لا ينتظر نشرة الأخبار.
المجد لمن لم يَكبُتْ الحبَّ في قلبه، وإن كان تدفُّقه انفجارا.
لم تتقبَّل مريم أن تكون رهينة النسيان، وتقبع في سجون الماضي تحت رحمة ذاك السَّجان. كلما مرّ في خاطرها، كأنما يُجْبِرها على التنبؤِ بِـحاضرٍ مشلولٍ عاجزٍ، ينتظرُها في غياب يوسف. 
تترصَّد لحظات غفلتها عنه، التي لا تحدث إلا ما نَدَر، لتحظى بفرصة تمرّدٍ محاوِلةً الهروب إلى ما كان في سنوات قد مضت. لكن الزمن لا يزال واقفًا هناك دون تقدّم.. هذه اللحظات التي تعلن فيها انسحابها من كل الأزمنة التي تُحتّمها على نسيان يوسف. 
كلنا لدينا سبب لكي نعيشَ من أجله بدلًا، لهذا قرّرت مريم أن تكون مهندسةً لمُستقبلها..
أمسكت بهاتفها، مستبيحةً حُرمة الصُّمود الفتّاك، الذي كان يمنعها من الاتَّصال آلاف المرات طيلة هذه السنوات، لتمرّ على أربع حروف كتبتها عن ظهر قلب "أحبُّكَ"، وضغطت الزر بحزم، دون أن تقاوم رغبتها بالإرسال -على غير العادة- وتتابع تأمل شاشتها برهبةٍ، بانتظار أن تظهر لها عبارة "تم التسليم".
***
مريم، الحاضرة في غيابها.. مريم، أيتها الأنس في وحدتي، يا خيالي الذي به أنتشي، وعليه أغفو وأصحو..
مريم، يا من فعلتُ كلَّ شيءٍ كي أقول لكِ أحبك، ولم تعطِني فرصةً لأن أقول.
صرت أكتب لأجلك، أعزف الموسيقى لأجلك، مغرمًا بكتابات غسان كنفاني لأجلك، أهوى البرتقال لأجلك، لا يمرُّ صباحي من غير صوت فيروز لأُشبِهك، يا أنا على صورتك أنتِ، يا حاضرةً بالحنين، يا من تحاصرين تعبي، وتَروِينَ أرقي، يا من تعبت من افتعال الصدف كي أراكِ، يا من تحمّلت سخافة عمِّك، يا من اقترن كلُّ جميلٍ عندي بصورتك، يا أول وآخر أُنثى لامس حضنها بشغفٍ حضني، يا مستبدةُ يا رحيمةُ، يا آخر سعادةٍ غمرتني قبل سجني، يا من اعتادت تجَّنُبي.. أريدك رغم الوجع، كطفلٍ ضربته أمُّه وعاد إليها يبكي.
يا من تتخذُّ محاولةُ الاقتراب منك خطَّ النار، وقُربك عذوبة الماء، يا من في عينيك حزن الناي ولسان حديثك الأمل.
أعوِّل حظي على المستحيل، كي أحطَّ كحمامة على أزهار نوافذك.
لا غرفة مريحة في ذاكرتي غيرك ألجأُ لها.. كيف لي أن أحبك كل هذا العمر ولم أعترفْ صراحةً بذلك؟! هل تُحبين قربي مثلما أحببت قربك؟
لم أعترف لك يومًا بوضوحٍ بُحبي، لقد كانت تخيفُني لا مبالاتك، وثقتُك وأناقةُ تعامُلك مع الجميع. لم تشعريني يومًا بأني مميز، لم أحب من قلبي أحدًا غيرك.
حين احتضنتُك في المسرح أولَّ مرة، ثابرتِ لافتعالِ نظرةَ انزعاجٍ أرهقتْني وحطَّت كل حواجز القدر أمامي، هل هذا جبروت امرأة؟ ليس جبروت، فالحبُّ ليس واجبًا، الحبُّ هواية، مادة اختياريَّة بالتراضي، آخذها أو لا آخذها، حصة موسيقى أو حصة رسم، أبدًا لم تكن حصة فيزياء..
في اليوم الذي تجرأت لكي أكون قربك، صِرت أقبع بين جدرانٍ قبيحةٍ، سلخت الكثير من الأيام من عمري وعمر غيري.. لماذا على الفلسطينيّ أن يقبل بنصف حياة؟، لماذا يقبل بنصف وطن؟ أو ربما أكثر من الربع بقليل. لماذا عليَّ أن أقبل بالعيش بنصف روح؟ لماذا لا أستطيع أن أرقص معك على شاطئ البحر، ولا أستطيع تناول ساندويش الفلافل في شوارع الرمال، وفي حواري المخيّم؟
المخيّم.. آه المخيّم الذي تركتِهِ لتعيشي بعيدًا عني في تل الهوى، بعيدًا، حيث لستُ أنا هناك. حيث أكون هناك لأجلك. ها أنا أتجرَّد من وجع السجن وأرتدي وجعك.
أحبُّ الغمَّازتين على خديكِ، تُهيِّجان رُوحي، وتُطلقان سراح الفراشات لتدلَّك خلايا قلبي. أحبُّ ابتسامتك، أحبُّ كلَّ شيءٍ لم أبح لك به إلاّ من خلال قصاصات أكتبها، وأنتِ لا تعين أنَّها لكِ.
ماذا أفعل أكثر؟ كنت أترجم لك حبِّي بكل التصرفات، حتى أني اقتربت من حضنك.
كان صمتك بعدها محبِطًا، محبطًا لدرجة أن يقلب حياتي رأسًا على عقب، محبطًا حتى الرمق الأخير للتشرد. أصبح قلبي في مهبِ الريح، يطير بعيدًا قريبًا، ويحطُّ أينما وجد زهرة، شائكةً كانت أو ناعمة، جوريةً كانت أو نرجسة.. زهورٌ سواء كانت قبيحة أو مخدرّة.
أنتظرك كثيرًا، حتى وأنا أراك صوب عينيَّ في مقر الجمعية. كنت أجلس بجوارك، يفصلنا شباك زجاجي، أنظر إليك، وأنتظر كثيرًا، حتى ملَّ المللُ مني.
أنتظر شيئًا ما، شيئا غامضا يقودني إلى أن أكون معك، كانت علاقتي معك مُشرّبه بكلِّ عنصريَّات المُجتمع، دائمًا ما كنت أرى في عينيِّ أبي أنِّي لستُ من ثوبك. كنت أشعر أن أبي خادمٌ لعائلتك، لم أرَ كل هذا الودِّ بين والدي وعمَّك إلا محضَّ نفاقٍ بين عبدٍ ومولاه، كنت أبغضُ عمَّك، أبغضه كثيرًا. كنت أكره أن يُمازح أبي بتصرفاته البغيضة، وأكره أن أرى أبي يبتسم، وكأنه سعيد بهذه الابتسامة. كان يستقوي بانفراده الطبقي بالمزاح مع والدي، يستطيع أن يمزح باليد، ولكنَّ أبي لا يستطيع. يستطيع أن يصرخ في وجه أبي، وأبي لا يعرفُ إلا الصمت. أذكر يوم انزعاج عمِّك الشَّديد من والدي، حين كان هناك خطأٌ في معدَّل عرض خراسانة سطح الطابق الأول لبيتكم. كانت ليلتها تأخذُني أفكارٌ غريبة، مثل أن أقتل عمَّك.. نعم، كانت نزعة العنف في داخلي تشتعل إذا أحسَّت وجود عمك، ذاك الطبقيُّ الجشع، الذي دائمًا ما يشعرني أني خادِمُكِ.. دائمًا كان مثل الحاجز المتين بيني وبينك، حين يتحدثُ عن مصروفك الأسبوعيِّ، أشعر بالضعف، بالضعف الشديد، لأن مصروفك الأسبوعي يُضاهي مصروفي السنوي.
أريد أن أقول لك الآن شيئًا، أيّ شيء، لكن يمنعني كل شيء. أشعر بالاكتئاب من كل شيء، لقد كنت عائدًا لأعيد ترتيب حياتي وأيامي، كنت قد شعرت بأغنيَّتك لي أني بُعِثتُ من جديد.. وأن أبواب القدر فُتِحَت لي أخيرًا على مِصراعيها، وحانت الفرصة. أنت راشدةٌ الآن، وقادرةٌ على أن تكوني أيَّ شيءٍ دون عمِّك.
متى سأخرج من هنا، وإلى أين أخرج؟ لماذا أنا هنا؟ هل هي صفعة القدر التي تلازمني كلما اقتربت من السعادة؟
لكن معك دائمًا يحكُمُني الأمل.
أذكر قول محمود درويش "نُعاني مِن مرضٍ عُضال اسمهُ الأمـــل!" أملٌ لا شفاء منه، أملٌ أن أكون معك.. أمل أن أكون والدًا لأبنائك. لم يعدْ قلبي يحتمِلُ الصحوَة، أريد أن أعيش في غيبوبةِ حُلمٍ معك إلى الأبد.
مرت ثماني ساعاتٍ على الرسالة (مريم)
مرت ثماني ساعاتٍ، مع كل ساعةٍ تمرُّ دون ردٍ من يوسف كان يزدادُ نزيف قلبِها، طلقةٌ تَقتَنِصُ صميم نرجسيَّتها.
لا شيء، لم يصلني بعد شيءٌ منه، كم أكره نفسي، لم يكن عليَّ أن أضعُفَ أمامه، لا يوجد أي مبرر كي لا يجيب على رسالتي، هل ارتكبت جرما؟ هل راهن على أسري أمام أصدقائه؟ هل كسب الرهان؟
أكرهك بجرفٍ فلكيٍ للكراهية، اخرجْ من تفاصيل اللحظة، يوسف لا أريد أن أتلعثم باسمك أكثر، كيف تلفظُ رسالتي كنفخةٍ في وجه الرماد، هل كانت رسالتي رمادًا؟ ولماذا لم تتصلْ؟ لماذا أنا من بادر بالاعتراف، كُنت تموتُ بحقٍ لصدفةٍ بها تلقاني.
هل تنتقم مني؟! 
هل وضعتُ السُّم في إنائي برغبتي؟ أكره هذه التكنولوجيا.. أكره زر الإرسال، أصابني بطلقة، أنا التي تجنبت الرجال بكافة أصنافهم، لم أُدْخُلَ عتبة قلبي لا لغنيٍّ ولا لفقير، لا دكتور ولا تاجر.. لا أحد.
كيف لك أن تفعل ذلك بي بمحض إرادتي؟!
مرت ثماني ساعات، وتسع وعشر.. ومرَّ يومٌ كامل، لم يُجبْ يوسف بشيء، كانت تقاوم رغبتها المكبوتة بالاتِّصال عليه ورشقه بسيلٍ من الشتائم. كانت حتى تريد أن تقول له بأن من أرسل الرسالة ليست هي، لكنها تردَّدت، فهي تعلم أن ذكاءه أكبر من أن يصدق هذه السخافة. أصيبت بحالة قهر، توليفة ما بين الضّحك والبكاء.
هكذا صنعت التكنولوجيا الحياة، كل شيء سريع الانهيار، تبني الحبَّ في عشرين عامٍ، وتُدمرُّه في لحظة.
يوسف، سأخلعُ وجودك من حياتي كما أخلع ضرسًا فاسدًا يهوى وجعي. أكرهُك وأكره عَلْقَم قهوتك، أكره كلَّ خطايا قلبي الذي عاملك برأفة، أكره كل شيء يربطني بك. أكره أن أعيش الحب كاللصوص، سيكون اليوم آخر موعدٍ لي مع هواك.
كثيرٌ من النساء تعبّرن عن ألمهن بالصمت، أو بالتجاهل حين يصبحن في قمة ألمهن. لذلك سيكون اليوم آخرُ يومٍ يا يوسف، لن أرسل شيئًا، ولن أُحدِّث ظِلي عن هذا الشرخ في قلبي، سيكون اليوم آخرَ يومٍ يا حبيبي..!
هكذا المُغرَمون حتى الرمق الأخير، أتفه الأشياء قد تُضمر علاقاتهم، يغدو التعامل مع حبهم، كالتعامل مع قنبلة!
يسمع ضجيج الزحام حول المكان، يرى من شباك سجنه مكتب العقيد، شابٌ يافعٌ أنيق يخرج ويدخل، ظنَّ لوهلةٍ أنَّه أحد الملازمين، لأنه لم يكن يرتدي زيَّ الشُرطة. اتضح بعد ذلك أنَّه من حاشية العقيد، يعمل لخدمة مزاجيَّة العقيد، قهوة.. شاي.. مكسرات.. وأحيانًا مشروبات روحانية.
أصوات السيارات تتغنى بأناشيد التنظيمات، والبرامج الانتخابيَّة، وكثيرًا من الأحيان نداءاتٍ في معجونِ طيَّاتها التخوين.
ظلَّ ينظر ببعدٍ إلى تلك المسافة القصيرة على وسع الحديقة، التي تفصل بينه وبين ذاك الذي يحتَجِزُه بغير وجه حق.. ربما حتى هذه اللحظة. أنهكه الانتظار، كان لا يُسلِّي قلبه شيء غير ذاك الحضن في المسرح، الحضن الذي يشبِهُ قبلة.. كان يختزل هذا المشهد بحذافيره، ينتشي عليه منذ أعوام.
تحوَّل شرود يوسف من الواقع السجين إلى الحب، أسند ظهره إلى الحائط، وبدأت تتسرَّب مريم داخل مسامات جلده.
عادة ما يُرّكِبُ بخياله صورًا حميميَّة تجمعه بمريم، بحرارة جسدها حين تلاصق جسده بمحض إصرارٍ، وأنفاسها التي كانت تأتي وتذهب بسرعة الريح.. كالإعصار.
ويهذي بمريم:
ملمس عنقك مريم، وانسيابه الحريري، أزير التردُّد والخوف، تمرُّد الدمعة من شدة الخجل..
أنفاسك ثم
أنفاسك .... ثم 
أنفاسك... ولآخر نفسٍ في عمري..
أشتاق أنفاسك مريم!
تتوجَّسي عُزلتي بصوت يئنُّ باسمك..
متورِّطٌ هذا السَّجن معك، كلاكما مشانقٌ لا مفر منها..
لكِ يا مريم طقوس مريبة، تجتاحينَنِي بلا أدنى مقاومة، وتهاجمينَني بغتة من مداخل وحدتي..!
كم أحبُّ أن أناديكِ حبيبتي باسمك مريم، أخاف من صيغة الملكية، أشعر أنها بشيء أو بآخر فيها خيطٌ من العبودية..
تقول فيروز: "روح اسألون عاللي وليفُه مش معُه مجروح.. بجروح الهوى.. شو بينفعُ.. موجوع.. مابيقول عاللي بيوجعُه"
تعطيني توصيفًا لحال حبي الصامت، الحب الذي أغلق صوته حال أهلي وأهلك، عقلي وعمُّك.. أنا الذي منذ قرَّرت أن ألاحق حضورك من بعد الغياب، أصبح نصف نومي يقظة!
أتذكرين طفولَتنا التي نجت بأعجوبة من سموم العمر؟
أذكر ذلك اليوم الذي رأيتُكِ فيه، كنت عائدًا من المدرسة، وتبكين أنتِ لما حلَّ بك من معلمة الفصل المجنونة. جئْتُ صوبك وأنت جالسة على باب المدرسة، قلتِ "لم تسمح المتخلفة معلمتي بدخولي الصف لأني كحلتُ عيوني"، وكان قد اختلط الأثمَدُ الأسود في عينيك بالدموع.. كان وجهك وقتها جذابًا، يغزل بقلبي صوف الرجولة. أخذتك بيدي إلى صدري، كنتُ خائفًا ويغلي في عروقي الحنين، وأنتِ دافئة جدًا كنت..
ما لا تعرفينه عن هذه الحادثة، أنّي ما زلت أحتفظ لليوم بقميصي الذي ما زالت آثار كحل عينيك موشومةً عليه، احتفظت به كما هو.
رغم معرفَة مصطفى بأنَّ القميص لكِ، ويعرف أنِّي أحتفظ به منذ أعوام، إلاّ أنَّه مثل عمك يتلذَّذ في تحطيمي. أتعرفين، أشعر أن مصطفى وعمك متشابِهين في النتائج، متناقِضين في الأسلوب، كلاهما تجري في شرايينهم شرقيةُ الأفكارِ. فشرقيَّةُ الأفكار كقطعة إسفنج قديمة مشربة بكلِّ أوساخ الماضي، رائحتها النتنة نرجسيَّة تحتلُّ أريج الزهور، لا تقودنا إلاّ إلى مزابل الأحوال.
أنا لا أقسو عليهما، هم هكذا التطرف وضده المتطرف، لعنَتَا عمري وعمرك.
حتى وأنا أحلم بك، يلاحقني أحدهما داخل حلمي، وينزع حلمي ويدنِّس قدسيَّته.
متى سأخرج من هنا، لأعترفَ لك أنِّي منذ نعومة أظافري وأنا أعيش دور الجاسوس على أخبارك؟ كم أتوقُ لأن تسمعي اعترافي بلا أدنى تردد، وهو يتلَعثَمُ بكلمة أحبك.
منذ خلقت أحبك..
عَطِشٌ إليك هذا القلب، كما الصحراء للماء..
عَطِشٌ إليك بقدر آلام المخيّم، بقدر أوجاعي الدفينة برمل الكبرياء، بقدر عزّة نفسي التي تقتل..
***
سوق الزاوية يقع في منتصف غزَّة، كان يعرف بسوق "الغلَّة" في الحُقبة العُثمانيَّة، من أشهر أسواق المدينة، تأسَّس منذ أكثر من ثمانية قرون. الروايات حول اسمه كثيرة، لكن أكثرها مصداقية كانت بأن هناك رجلًا من أثرياء الهند جاء إلى غزة وقام ببناء وتأسيس تلك الزاوية، واستقدم هنودًا للعمل في تجارته هناك، وصارت تعرف هذه الزواية بهذا الاسم، لتعوّد الغزييّن على وصف العنوان بزاوية الهنود. وقد جُدِّد بناؤه في عام 1236 هجري، وأصبح أكبر الأسواق في غزة.
ويجمع السوق الأثريِّ كل طوائف المجتمع الفلسطيني طوال العام. فيه تجد كل أصناف الخضروات والفواكه، واللحوم، والبهارات والمخللات التي يعشقها الشعب الغزيّ، وكلّ الأدوات المنزلية أيضًا.
وهناك تجد كل ما لذَّ وطاب من الحلويات بأشهر أنواعها "الكنافة النابلسية"، "البقلاوة"، "الهريسة"، "الغريبة"، "المعمول". وفي رمضان، يتحوَّل هذا السوق إلى ما يشبه مهرجانًا، يكون في أجمل استعدادته، فيه كل طقوس هذا الشهر، وتزداد الأصناف والأطعمة.. قد يكون المكان الوحيد الذي يجعلك تشعر بكامل تفاصيل التقليديَّة العريقة لهذا الشهر، حتى في أنواع المأكولات التي تجدها هناك..

بجانب زاوية الهنود مسجدٌ صغير، أمامه عدد من "البسطات"، وإن دخلت تلك المنطقة، ستجد الباعة أيضًا في كل المناطق حول السوق.
يدخل مصطفى المسجد مبتسمًا، برفقة اثنين. يشعر بنشوة الانتصار دائمًا، ومن الإيمان الكثير. تعوَّد مصطفى على الحفاظ على هدوئه في أي نقاش، فهو يعيش مع أخيه الذي يحترف النقاش بالضدِّ ضدَّه. هذا الجو الذي تربيَّا عليه خلق لديهما حالة من البرود في شخصيَّتِهما مثيرةً للإعجاب، فمن الصعب جدًا أن يستفزَّهما أحد، كلاهما مُستَفِز لا يُستفَز، مبالٍ ولامبالٍ.
دخل مباشرة ًإلى غرفة إدارة المسجد.. مصطفى معروفٌ جدًا على مستوى مساجد القطاع، وخصوصًا تلك التي تفيض بها الحواري والمخيمات. قام بتوقيع بعض البيانات التنظيمية، لإرسالها إلى الجهاز الإعلامي سريعًا..
ثم جلس على الكرسيّ المتحرك مبتسمًا، وقال لمرافقيه بأنه سيتم نقل الشباب الذين أخرجهم من السجن إلى العمل السري للجهاز العسكري. يجب أولًا أن يكونوا بعيدين عن الأنظار لفترة، وبعد ذلك ينقلهم للعمل في الجهاز العسكري، حرصًا على سريَّة النقل ولمراقبة تحركات الشباب أنفسهم، ودراسة أحوالهم وأحوال المحيط المجتمعي لهم.. علاقاتهم.. دراستهم.. أصدقائهم.. المساجد التي يصلُّون بها.. 
كل شخصٍ، حتى لو كان عنصرًا نشيطًا في التنظيم، حين يُتخذ قرارًا بضمه للجهاز العسكري، يتمُّ فحصه أمنيًا مرة ثانية، وكأنها أول مرة، ويتم تنفيذ العديد من اختبارات الثقة عليه، ومراقبته ثانية بثانية، حتى في أسلوب نومه، وما إذا كان يتكلم أثناء نومه أو لا.. 
في هذه الأثناء، كتب مصطفى بيانًا يوضح فيه ملابسات حادث الاعتداء على مركز الشرطة، حيث نفى أن يكون هناك أي علاقة للتنظيم بالحادث، ولا لهولاء الشباب الذين تم إخراجهم من السجن، وذكر أنهم كانوا يعملون في الإطار الطلابي للتنظيم، وتم طردهم لأسباب خاصة بالتنظيم. وختم البيان بالإشارة إلى أن السلطة الحالية غير قادرة على حماية مقراتها، فكيف لها أن تقوم بحماية هذا الشعب.
وأضاف أيضًا أن السلطة لا تفوّت أي فرصة لتشويه صورة التنظيم، خصوصًا في المرحلة الانتخابية لمجلس الشعب، التي يشهدها هذا البلد، وختم البيان .. "والله ولي التوفيق".
*****

ترتدي معطفها الأسود، تلحف بيديها كوب النسكافيه الساخن، وشالة سوداء أنيقة تلتفُّ برقةٍ على رقبتها، كيرقةٍ تغزلُ الحرير. تحاول أن ترى أحدًا يمرُّ سهوةً في البيت، كي يحضِر لها شاحن الهاتف، فلا تجد. تغالبُ كسلها، ثم تعود تتخبَّطُ ساقاها الناعمتان في بعض من البرد، كما تتخبَّط الأغصان ببعضها في الريح. تبحث في ذاكرة الهاتف عن ذكريات تلهبُ قلبها، ثم تندم لأنها تذكرت يومًا أنَّها طلبت من سكرتيرتها أن تتخلص لها من كل ما تحتويه الذاكرة، أو إن جاد التعبير كل ما يربطها بالماضي من كتابات كانت تحتفظ بها له.
 لا شيء على الذاكرة،.. 

تشعر بأنّها هذه الأيام الثلاثة تعيش وحيدةً في صحراء لم ينبت فيها الحنين، فرذاذ قلبها لم يَسقِه بعطف، بل قطّع منافذ الماء والهواء عنه. منذ تجاهل الرد على الرسالة، لم تكن تعرف أنها ستعيش وحيدة وسط الزحام.
استندت إلى الوسائد المخمليَّة، لا يذكَّرها به إلا أصوات العصافير وأزهار الطريق وزجاجة العطر، وأغنية ألقتها على مسامعه عند سلم البيت.
في نظرها كانت حالة حبٍّ مقتضبة!
وما إن غفت عينها على الوسادة، وبعد ثلاثة أيام من تجاهل يوسف الرد، وصلت لها رسالة. كانت خائفة جدًا من أن تكون رسالة إعلانيَّة من شركة المحمول أو من شخصٍ آخر. فقد تعذَّبت على مدار ثلاثة أيامٍ بسبب تلك الرسائل. كانت تكره جدًا ذلك، فقررت أنْ تقاوم رغبتها وألاَّ تفتح الرسالة..


مرَّت دقيقةٌ.. دقيقتان.. ثلاثة..
ثمَّ قامت من غفوَتِها عن السَّرير باندفاعٍ، وأمسكت الهاتف كالمجنونةِ.. قرأتْ الرسالة، وضَحِكت كثيرًا..
انتابَتْها حالةٌ هستيريَّةٌ من الضحك والفرح ومن الجنون.
 صارَتْ ترقص وتُغنِّي مبتسمةً جدًا لأمِّ كُلثوم: 
"وصفولي الصبر، 
لقيته خيال وكلام في الحب.. 
كلام في الحب، 
يا دوب.. يا دوب يتقال..
 أهرب من قلبي أروح على فين، ليالينا الحلوة في كل مكان"
ضحكت بعمقٍ كضحك المجانين.. بحريَّةٍ ضحكت، كما لمْ تضحكْ من قبل. جعلها يوسف تضحك من قلبها بغيرِ إرادة، من غير تخطيطٍ، لكنَّه كان السَّبب..
قالت لنفسها، بعد أن ارتَمَتْ كالذبيحة على سريرها:
يوسف الغائب، كنتُ سأجرح جسدي بأيِّ شيءٍ كي أُشغِل عقلي بوجعٍ أقلَّ حدةٍ من التفكير بك.. كاد سوء الظَّن يَشنُق كبريائي، أنا سعيدةٌ.. سعيدةٌ جدًا
ثم عادت تُغنِّي:
"عيني عيني على العاشقين، حيارى.. مظلومين.... "
كان نصُّ الرِّسالة عبارةً عن تقريرٍ من شركة الاتِّصالات، تُفيدُ بتعذُرِ تسليم الرسالة، لأنَّ الهاتف غير متاح!
****
يصدَحُ الأداء السَّريع في الطَّابق الأرضيِّ، نساءٌ يتسارعن في إعداد الكعك، إحداهن تخبز في الفُرنِ، وأُخرى تأتي بالكعك على صواني الألمنيوم، وفريق الحشو يدوِّر العجوة مع العجين، وطفلةٌ تُقطِّر الصَّواني بزيتِ الذُرة، وتمسحه في أرجاء الصَّينيَّة، ثم تبدأ بترتيب الكعكات تباعًا، بعد أن ينجزها فريق الحشو.
العمل لتحضير العزومة في منزل رأفت، موظَّف العقيد نبيل ومدير مكتبه، كان يتمُّ على قدمٍ وساق، كأنَّها خليَّة نحلٍ، مكوَّنة من والدته وزوجته وأخواته وبناتهن.
وكانت أطباق الطعام تُنقل إلى طاولة السفرة في الطابق الثاني من سلُّم إلى آخر، بتوتُّرٍ وتركيز، كأنهن في اللحظات الأخيرة للامتحان. عدد الأطباق كان مبالغًا به، ربما لو تناول الشَّخص ملعقة من كلِّ طبقٍ لأحسَّ بالشبع قبل أن يتذوَّق كلَّ أصناف الطعام.
اعتاد رأفت أن يفعلَ أيَّ شيءٍ في سبيل رضا العقيد. كان وفيًا له أكثر من وفاء الكلب لصاحبه، وكان العقيد يثِقُ به جدًا، لدرجة تسجيل ملكيَّة أراضٍ وعقاراتٍ باسمه، كي يُبعِد الشُّبهات عنه. وكان رأفت لا يترك فُرصةً إلاَّ ويُثبت فيها صِدق إخلاصه بها للعقيد.
اتَّصلت زوجة رأفت به، وأخبرتْه أنَّ طاولة الغداء صارت جاهزة، وبادرت بذكر الأصناف التي يُحبُّها العقيد، من ورق عِنبٍ، ومحاشي، وفطائرٍ بالسبانخ، والمقلوبة والمفتول، والكعك. أبلغها أنَّهُ سيكون في البيت خلال ربع ساعة، وطلب منها أن تتَّصل بأخوته كي ينتظروه عند باب المنزل، ثم أقفل الخط.
طرق رأفت الباب على مكتب العقيد، وقال: الطعام جاهز الآن والسَّيارة في انتظارنا لنتحرك.
هزَّ العقيدُ رأسه وقال: لم يكن هناك داعٍ لأن تُتعِب نفسك والأهل بهذه العزومة.
قال رأفت: كلُّه من خير سيدي.
أخذ العقيد هاتفه من على الطاولة، وضعه في جيبه، وأرجأَ الكرسيَّ المتحرك إلى الخلف، وأخرج المفاتيح من جيبه وفتح الخزنة، وأخرج زُجاجة ويسكي من نوع جاك دانيل، وقال لرأفت: خُذْها معك لكن ضعها في كيسٍ أسود.
أخذها رأفت، وتحركا سويًا إلى سيَّارة الشّرطة. ركب العقيد ورأفت السيارة، ثم تحرَّكت، وتحرَّك خلفها سيارة مرافقة أخرى.
وخلال عشر دقائق، وصلا إلى المنزل. لم يكن يبعد كثيرًا عن منطقة السَّرايا، فقد كان يقطن في حي الثلاثينيِّ، الأقرب لمحل عمله.
وسط ترحيب أُخوة رأفت، دخل العقيد البيت، وكانت "زغرودةُ" والدته ودعواتها حاضرة.
توقَّف العقيد عند مُنتصف السّلم عند سماع دعوات أمِّ رأفت له، وقال لها: لا تنسِي أولادي من طيب دعواتك..
العقيد يتمتع بحسٍّ اجتماعي عالٍ. فبرغم وضعه الممتاز عمليًا، إلاَّ أنَّه كان يتعامل بطيبةٍ مع أغلب طبقات المجتمع، والناس الذين يضطرُّ لمُقابَلتهم، على عكس الآخرين من أوساط السُّلطة.
أثناء تناوله الغداء، جاء اتصال بالعقيد من مكتب عمله.
- سيِّدي لقد قبضنا على ثلاثةٍ من الرَّجال الذين تمَّ تَهريبُهم من مركز الشّرطة. كانوا في شقةٍ في حيِّ النَّصر، وتمَّ التَّحفُّظ عليهم وعلى الأسلحة الموجودة بالشقة.
تنهَّد العقيد وأخذ بهدوءٍ من الطعام قطعة "محشي" وقال:
أطلق النار على أرجُلِهم، أجلسْهم على قطع زجاجٍ، ودعهم في غرفة التّعذيب طوال اليوم، لا يخرجون إلاَّ بعاهةٍ مُستديمة، لا يسلم منهم شيئًا إلاَّ لسانهم.
ثم ختم الاتِّصال بشتمِهم بألفاظٍ نابية، وأكمل طعامه، وسط حالة ذهول من أخوة رأفت والحاضرين.
تدخَّل رأفت فقال: هؤلاء جواسيس تمَّ الكَشفُ عنهم وعن شبكة تجسُّسٍ كاملة، وتمَّ تهريبُهم من السِّجن حتى لا يعترفوا عن بقية العُملاء.
ثم استرسل بشرح كلَّ ما لذَّ وطاب من تهم الخيانة، فأخذ العقيد على عاتقه تغيير الموضوع، بالحديث عن لذَّة الطعام ومذاقه.
عندما أنهى الجميع طعامهم، ذهبوا إلى الرُّوف لتناول المشروب. كان أخوَّة رأفت يعملون سابقًا داخل الأراضي المحتلَّة، وكانوا جميعًا يتعاقَرون المشروب، أَسعَدَهم ذلك الخمر المُستورد الذي يُحضرْهُ العقيد من داخل فلسطين المحتلة، فلقد كان يحمل العقيد تصريح VIP يسمح له بالتنقل إلى الضفَّة الغربيَّة وإلى فلسطين الداخل.
أحسَّ العقيد بنشوة التملُّك، يرى كلَّ من حوله كأنَّهم كائنات أقلُّ درجةٍ منه، رغم أنَّ ولاءهم له مُنقَطع النظير.. تلك نفسيَّة أبناء السلطة والمال، حتى وإن أخفوا ذلك. غالبًا تختلف درجات هذه الشَّهوة تبعًا للمستوى العقليِّ التعليميِّ لكلِّ شخصٍ من هذه الطبقة، والعقيد كان مثقفًا جدًا، وشيوعيًا سابقًا.
سرق الوقت العقيد، وأخذ الضحك على شِدَّتِهِ يُدمِعُ العيون.. كانت الفواكه والمكسَّرات والحلويات لا تتوقف أبدًا، والتمر المرافق للمشروب دائمًا. مرَّت 8 ساعات على الجلسة، حتى أصبحت السَّاعة العاشرة مساءً.
لا أحد من الأطفال أو النساء يقترب من الرُّوف الذي يجلس فيه العقيد ورأفت وأخوته. كانت الأحاديث تجرُّ بعضها، وكان يتلذَّذ العقيد بالحديث عن سفريَّاته إلى مصر ولبنان، وعن الأيَّام التي قضاها في تونس مع رفاقه في الحزب الشِّيوعي هناك، قبل أن يتركهم ويعود إلى أخذِ حِصَّته من السُّلطة، التي خرجت نِتَاج اتِّفاق أوسلو في 10 أكتوبر من العام 1993.
عند السَّاعة العاشرة والنصف، جاء اتِّصال من مكتب العقيد، فأعطى العقيدُ لرأفت الجوَّالَ ليُجيب عنهُ، وليتخلص من عبءِ الرَّد على المكالمة.
أجاب رأفت على الجَّوال بتَمْتَمَاتٍ صغيرة، ثم أقفل الخطَّ قائلًا: لا تهتم.
تغيَّرت ملامح وجهه، ثمَّ ذهب صوب العقيد، وانحنى قُرب مسامع العقيد وقال بصوتٍ منخفض له:
- الشباب ماتوا تحت التعذيب.
***
شقةٌ كبيرةٌ في حيِّ أبراج المقُّوسي، في إحدى الغرف طابعة ومجموعةٌ كبيرةٌ جدًا من أوراق A4 فارغة، حيث كانت تُطبع بيانات التَّنظيم في هذه الغرفة، ثم تَنتَشر في أنحاء المدينة. غرفة أخرى مؤثَّثة صغيرة، فيها مجموعةٌ من الفرْشات، ينام فيها أحيانًا أفراد التّنظيم. لديهم في الغرفة أيضًا غازٌ صغيرٌ، شاي ليبتون، سُكَّر، ثلَّاجة ماء صغيرة.. لا غير.
الكثير من صور شهداء التّنظيم مُعلَّقة على الجدران، على كل حائطٍ تَجدُ ما لا يقلُّ عن عشر صور لشهداء.
الإضاءة خفيفة أقرب للظُلمة.
في الغرفة الثالثة، توجد طاولة مكتب، وعليها حاسوب، ويجلس خلفه أحد أفراد التّنظيم. يُستخدم هذا الحاسوب لأغراض التصميم التَّابعة للتنظيم، وأيضًا يتمُّ هنا إرسال التَّصريحات إلى إدارة الموقع الإلكتروني التّابع للتّنظيم، حيث العمل الإعلامي لا يتمُّ في مكان واحد. يتمُّ توزيعه على أكثر من شخص وأكثر من مكان، حتى لا يسقط الموقع في أيدي أحد، في حال تمَّ اكتِشاف مقرَّ الجهاز، ولأغراضٍ سريَّة وأمنيَّة أُخرى.
خلف الشَّاب يقف مصطفى، ليعطيَ ملاحظات على فيلمٍ كرتونيٍّ ساخر من إنتاجهم، للسُّخرية من أحد قيادات السُّلطة، وذلك لنشره على اليوتيوب، ومن ثم تحريك القنوات الإخبارية الموالية للتنظيم لإثارة ضجَّةٍ عليه، تتخذ ليوم أو ليومين قضيّة رأيٍّ عام.
على نغمة أنشودة "فتنت روحي يا شهيد"، رنَّ هاتف . على الهاتف أحد أفراد الشّرطة العاملين في مكتب العقيد نبيل، وكان جاسوسًا لصالح التّنظيم، ليتقاضى مالًا مقابل ذلك.
خرج مصطفى من الغرفة، وذهب إلى الصالة وأجاب. وبعد السلام، قال: هل من أخبارٍ جديدة؟
- الأخبار سيِّئة أخ مصطفى 
- خير؟
- شبابكم ماتوا تحت التعذيب
- أيُّ شباب؟!!!
- الذين تمَّ تهريبهم من مركز الشرطة
تمالك مصطفى أعصابه، ثم أشعل كلَّ غضبِه وضرب بشدَّة على الحائط، فسال من يده الدم.
استطرد الجاسوس حديثه قائلًا:
- وشقَّة المكتب الإعلامي، وحواصل تخزين القماش والأوراق للتنظيم تمَّ التبليغ عنها، وستخرج دوريَّة الساعةَ الثانية صباحًا لمُداهمتها واقتحامها، أي بعد أربع ساعاتٍ تقريبًا من الآن..
أنهى مصطفى المكالمة معه، وأسند ظهره إلى الحائط، ولم يستطع تمالك نفسِه، فجلس القُرفُصاء مستندًا إليه.
خرج مرافقه من الغرفة بعد أن سمع الصوت، وسارع إلى مصطفى ورأى الدمَّ يسيل من يده. توَّقف لوهلةٍ، لم يعرفْ كيف يتصرف، فنادى على باقي المتواجدين في الغرفة، وسألهم عن اليود أو أيِّ شيءٍ آخر ليُداوي جُرح مصطفى.
نادى مصطفى عليه وقال له: هناك أمرٌ أهم. قُبض على الشباب اليوم، وأثناء التعذيب قُتلوا. البقيَّة في حياتك، أخوك استشهد.
كانت الفاجعة أنَّ واحدًا من الشباب الذين ماتوا هو أخٌ لمرافق مصطفى المُتواجد معه، وكان له اسم حركي هو أبو صهيب..
أصابتْهُ نوبة غضبٍ شديدة، أخذ السِّلاح من المكتب، وأراد أن يُهاجم مبنى السَّرايا، ولكنَّ المتواجدين قد أمسكوا به.
كان يصرخ بحرقةٍ، وينادي: أخي.. أخي! 
حاول مصطفى تهدئته: سنأخذ بثأر أخيك، لكن في الوقت المناسب. يجب أن نترك المكان الآن..
ثم وضع يديه على كتفيه وقال: كنْ رجلًا، البكاءُ للنساء فقط.
وطلب مصطفى من الشباب إخلاء المكان، وأَخْذَ الحاسوب وكلَّ شيءٍ مهم، ٍوحرقَ ما تبقى.
اتَّصل بالسَّائق، وطلب منه أن يأتي إلى أمام الشَّقة. استغرب السائق حيث إنَّه عادةً يجب أن تبقى سيَّارات التنظيم واقفة بعيدًا عن أيِّ تجمعٍ أو مقرٍّ للتنظيم. كان مرافق مصطفى قد انهار على السّلم، فحمله مصطفى على كَتِفِه وخرجا من المبنى إلى السَّيارة، وانطلقوا.
ثم جاءت بعد أقلِّ من نصف ساعة سيَّارة جيب، حمَّلوا فيها الأغراض المهمة والحاسوب، وانطلقوا أيضًا، بعد أن أشعلوا النار في الشقة.
أخذ العقيد زجاجة المشروب وملأ كأسه دون أنَّ يمزجه بمشروبٍ آخر. بالعادة يمزج العقيد مشروبه بالتفاح حتَّى يتحاشى مرارة طعمِه. لكنَّه هذه المرة شرب الكأس كلَّه دفعةً واحدة، نفض يديه كأن مسَّتهُ القشعريرة. ثم تنفَّس، ومسح بيده على أنفه وقال:
- كلابٌ وماتوا، لنرى أيًّا من التنظيمات ستتبناهم، أليس تنظيمهم تنصَّل منهم، فلنرى ما عِندهم الآن..
وأخذ يصبُّ في الكأس مرَّةً ثانية، وأشار إلى مصطفى بأنْ يُجهِّز السيارة ليذهبا إلى المكتب.
قال رأفت: سنشرب فنجاني قهوة ونذهب.
- قهوة سادة، بلغ الشباب يجَّهزوا السَّيارة
شرب رأفت والعقيد قهوةً، فأفاقا قليلًا من سكرتهما، ثم توجَّها إلى المكتب.
دخل العقيد مع رأفت مكتبه، ونادى أفراد الشرطة الذين كلَّفهم بتعذيب الشّباب، وطلب منهم أن يرووا له ما فعلوه بالضبط..
قال أحد الأفراد: لقد طلبت منا استجوابهم كما جرت العادة، فلجأنا لاستخدام الكهرباء. ولأنَّ أجسادهم كانت مبلَّلة بالماء، نتيجة تعذيبهم بالماء الساخن، لم يتحملوا التَّيَّار الكهربائي، وماتوا على الفور.
بَصَقَ العقيد عليه ثم صرخ:
أنتم مجانين، كيف تعذِّبوهم بالكهرباء وهم مبلَّلون بالماء؟! أنتم حثالة، حمير، أولاد عاهرات.. قلت عذبوهم لا أن تقتلوهم!
قال لرأفت: خصم راتب ثلاثة شهور، وشهران حبس انفراديّ.
أومأ رأفت برأسه، ثم طلب عناصر شرطة عن طريق جرس النداء الموجود على مكتب العقيد. جاء عنصران من أفراد الشرطة وأخذوهم إلى السّجن. وسأل العقيدُ رأفت: ماذا نفعل بالجثث؟
قال رأفت: لا أعرف، لكن يجبُ أن يتمَّ ذلك بسرعة، دون أن يصلَ الخبر إلى الإعلام.
استجمَعَ العقيد أنفاسَهُ، وجلس خلف مكتبِه. تناول حبوبًا مهدِّئة، ثم أشعل سيجاره، وقال:
أريد أن تُطلق عليهم الرّصاص وترمي بجثثهم في منطقة بعيدة عن السُّكان. التَّنظيم تنصَّل منهم، لذلك لن يستطيعَ إعلامُهم مُهاجمتنا، وسنكون بمنأى عن جمعيَّات حقوقِ الإنسان. وسَرِّبْ معلومات عن المكان الذي ألقينا فيه الجُثث بين عناصر المركز، ليَعلمَ جواسيسُهُم أين يجدوها، وقم بذلك بسرعة ليَصِلوا لها قبل أن تتعفَّن..
أفراد الشّرطة يسمُّون رأفت بكلب العقيد. كان ينفُّذ كلَّ أوامرِه بحذافِيرها، وبتفاصيلَ مُتناهية، بكافة شيطانِيَّتِها "ففي التفاصيل تكمن الشياطين"..
هذه المرة الأولى التي يتعامل فيها مكتب العقيد مع الجثث، وسيتطلب الأمر استغلال بيان التَّنصُّل الذي أصدره التّنظيم. شعر رأفت بالرعب من كلام العقيد، لا يريدُ توريط نفسه بقضايا الموت، فالعقيد يمشي دائمًا بحراسةٍ على الأقل، وكلمة جواسيس تعمل لصالح التنظيم في مكتب العقيد أشعَلت الخوفَ في عقله. أصبح الخوفُ نارًا لا تنطفئ، أيقظتْ كلَّ خلايا عقلِه، لكن لا مفر، سيُنفِّذ ما قاله العقيد حرفيًا. وهذا ما حصل.. نفَّذ بمُساعدة عناصر من مكتب العقيد ما طلب، ومرَّ أسبوعٌ على ذلك..
لم يكن هناك أيُّ ردة فعلٍ من التنظيم، لا نعي، لا جنازة، لا شيء. ذهب رأفت بنفسه إلى المكان الذي ألقى به الجثث، لم يجدْ الجثث.. لا معلومات، لا تفاصيل، تدفقت في دمِهِ عشرات الظنون المخيفة.. بل مئات.
***