يوسف يا مريم ( 6 )

استيقظت في الصباح باكرًا، أعدَّت قهوتها برفقٍ كما الريشة في يد الفنان، انْتَشَتْ بعَبَقِ الهيل، كان يطير في الهواء مُحتَضِنًا معه رائحة البنِّ الأسمر. لا يعكرُ صفوَ قهوتها السُّكر، مُرَّةٌ كما تعلمتها من يوسف.
فتحت جزءً من النافذة، وأسدلت السِّتار. كان ضوء الشّمس يتشكَّل على سريرها بخطوطٍ أفقيَّة، أشعة الشمس التي تقتَحِمُ غُرفتها تشكِّل حركة تناغمٍ ما بين الديكور والطبيعة. في الشّتاء أو الصّيف، في الغروب أو الشّروق، في كلِّ الأوقات تتداخَلُ الطّبيعة مع ديكور غُرفتها لتشَّكل لوحةً خاصة، فلقد صمَّمت بنفسها تفاصيل الغرفة، بجُدرانها وألوانها والسَّتائر، والشراشف، والأثاث..
كانت ترتدي قميصَ نوم ٍأزرق قصير شفَّاف، يُظهِر ملابسها الداخليَّة البيضاء، جسدها أجمل من عارضات الأزياء، منذ نعومة أظافرها وهي تُواظب على الذهاب إلى النادي، حتى أصبح جزءً من يومها. أشعَّةُ الشَّمس كانت تُلامس ساقيها البيضاوين على السَّرير، كانت تضاعف جمال ساقيها، وتضيف ما يكفي لإغراق آلاف من الرجال في حبِّها. شعرها الأسود الطويل مَرْخيٌّ على كتِفَيْها بشيءٍ من العفويَّة أو الفوضى المُشتهاة، كأنَّه يَنتَشي من ملامسة كتفيها. ونهدان مُمْتَلِئان، من الشمس يأخذان حرَّهما، الشَبَقُ في نواتيهما، يعكس أوج أنوثتها وطبيعة أحلامِها الليليَّة، نافرين، جميلين، يناديان حبيبًا واحدًا، كحبات الكرز، لكن مُحرَّمين على جميع الرجال.

وضعت سماعات الهاتف في أُذنيها، وأخذت تسمع كاظم الساهر بأغنيَّةٍ تَليق بُسُكْرِ وسُكَّر حُسنها وصباحها:
" فلا تنعتيني بموت الشعور
ولا تحسبي أن قلبي تحجر
أحبك فوق المحبة لكن..
دعيني أراك كما أتصور
صباحك سكر.."
يوسف صباحك علقمٌ معي، أُريدك شمسَ صباحي..
أطْفِئني، أرِني كيف سيُطفئُ ماؤك ناري؟ هل ستخسَرُ أمامي؟ أأثقُ بكلِّ شيءٍ فيك؟ لكن لا أعرف كيف تكون لسْعةُ مائك؟ أتوق لأن أُذيقَك لسعاتي.. أتوق لتعميدِكَ، لتصبِحَ تابعي، أسيرًا للسعاتِي، أُذيقُك مرارة التمنع.
أتخيَّلُ أحيانًا حين سأكون معك بمُفردنا، سيَصِل استبدادي لصَخَبِ الفضاء. نعم، أدرك أنِّي سأكون معك في النهاية، أنا لا أخسَرُ، ويُسعدِني أن أعترف أمام نفسي لا غير، أنَّك لي لُعبتي، ودُميتي.. كلُّ شيءٍ أنا وأنت لا، ممنوعٌ عليك أن تُزعجني، ويحقُّ لي أن أُزعجك.. ممنوعٌ عليك الحديث عن أيِّ أُنثى بوجودي أو بغيابي، ويحقُّ لي أن أقولَ ما شئتُ عن كاظم. يُمنع عليك البكاء، ولي حريَّة البكاء بسببٍ أو بدون سبب، وعليك إرضائي..
ممنوعٌ عليك أن تقولَ لا، ويحقُّ لي كيفما أشاء الرفض..
ممنوعٌ عليك الضرب، ويحقُّ لي تعذيبَك بكلِّ الوسائِد المُخمليَّة في البيت.
ممنوعٌ عليك الفلسفة الشرقيَّة، كأن تُريدُ أن تُفحمَني بفكرةٍ تُقيِّد حريَّتي "يا فيلسوف زمانك..!"
ممنوعٌ عليك فِعل أيِّ شيءٍ أنا أرفضهُ، أو أيِّ شيءٍ يُضايقني..
ما أسودَ أيامك حين أقولُ لك توقَّف عن شيءٍ ولا تتوقف، سأجعلك تتشرَّد على سطح الكرة الأرضيَّة، وربما سيكون أسهل عليك أن تقدِّم لجوءً إلى المريخ.
بينما أنا، يحقُّ لي أن أزعجك في أيِّ وقت، وأن أقول أيَّ شيء، وأن أضرِبك وأوجعك..
وأن أتفلسف بميتافيزقيَّة كيفما أشاء، وعليك أن توافق على كلِّ شيءٍ، حتى ولو لم تكُ مقتنعًا.
ليس لك صلاحيَّة أن توقِفني عن الكلام، ولا ممارسة اللامبالاة حين أتكلَّم.
حين أريدُ أن أقف، لوحدي أتخذ هذا القرار.
سأزعجك جدًا إذا عاكست رغبتي في شيء، يا ويلاه لما سأفعلُ بكْ، سأنتِفُ ريشك مثل الحمام.
و حتى وإن عاقبتك، لن يشفعَ لك الاعتذار رُغم أنَّك ستستمرُّ بالاعتذار، لكن لن أتوقف عن عقابك حتى يُشفى غليلي..
كانت حالةُ مريم هذا الصباح، حالة حبٍّ، كالغريق الذي يتعلَّق بقشةٍ، أسعدتها أنَّ تلك الرسالة لم تُنهِ حُلمها، بل زادت من حبِّها ليوسف الضعف ضعفين..
أخذت طوال الليل تحلم به، حتَّى في صباحها تفكرُّ به..
بردت قهوتها، تذوَّقتها، ثم قامت من سريرها وأحضرت اللابتوب الخاص بها، وبدأت تتفقَّد البريد، ثم شيئًا فشيئًا بدأت بالبحث عن أيِّ تواجدٍ له على الإنترنت. تفحَّصت الماسنجر، حيثُ لم يغيِّر النيك نيم منذ أكثرَ من أربعةِ أسابيع، تفقَّدت حسابه على الفيس بوك، لم يحدِّث شيءٌ منذ فترةٍ طويلة، حتى في حساب التويتر، وكل مواقع التواصلِ الاجتماعي..
فتحت مدوِّنتهُ، لا جديد منذ مدة، لا تعليق، لا سطر لا شيء..
كان بينهما صديقةٌ مشتركة على الفيس بوك، كانت متردِّدة جدًا في أن تتَّصل بها وتسألَها عن يوسف..
لكن في النهاية ارتأت أن تتَّصل عليها، وأن تتحجَّجَ بحاجة الجمعية له لتصميم موقعٍ إلكتروني، فقد كان يوسف قد عملَ فترةً في مكتبٍ للتصميم في منطقة الوحدة، قبل أن يفتتح مكتبهُ الخاص في الرمال الجنوبيّ..
اتَّصلت عليها، وسألتها عن صحَّتِها وعن دراستها وما إلى ذلك، ثم قالت:
- هل تعرفين كيف أصلُ إلى يوسف؟ أعتقد أن لدينا موعدًا معه في الجمعية، لقد رأيته في قائمة الأصدقاء المشتركة لديك..
- يوسف الشيخ زميلي في الكليَّة؟
- نعم هو.
- يوسف متغيِّب عن الجامعة تقريبًا منذ فترة، ولم يحضرْ الامتحانات النصفيَّة أيضًا، مختفٍ لا أعلم عنه شيئًا.
- هل تعلمين أين يمكن أن أجدهُ؟
- في الواقع هو يسكن في المخيَّم، لكن لا أعلم أين بالتفصيل، لكن.. لا شيء
- لكن ماذا؟
- لا أدري.. إذا كان يهمُّك أمره أو لا، لكن سمعت من أصدقائه أنَّه لم يعدْ للبيت منذ مدةٍ أيضًا.
تصنَّعت مريم البرود وأخفت لهفتها، وأجابت ببرود:
- غريب!
أجابت صديقته بسخريَّةٍ "ما غريب إلا الشيطان"، ثم مرَّ من أمامها أحد أصدقائه المقرَّبين، فقالت لمريم انتظري.. صديقُه أحمد هنا، سأسأله وأعيد الاتِّصال بك.
بقيَت مريم في حالة غليانٍ تام، تقاتِل الهواء، شعرت أنَّ جدران الغرفة تكادُ تُطبقُ عليها، وأن أكسجين الكوكب لا يكفي لها، تناولت حبَّةَ مهدئ.
رنَّ جوَّالها مرَّةً أُخرى، فأجابت وقالت: خير، طمِّنيني ماذا قال لك؟
ردت صديقتها: هو لم يَره منذ أسابيع، وغير مُتواجد في البيت، وهاتفه مُغلق، لا يعلم شيئًا. لكنَّه أبدى ريبته في أن يكون معتقلًا في السِّجن للتحقيق معه بسبب انتماء أخيه التنظيميِّ، فالسُّلطات تبحث عن أخيه منذُ ما يقاربُ الشهرين.
أنهت مريم المكالمة، ثم ارتدت ملابِسها بسرعة غاضبة، وخرجت مسرعةً بسيارتها كرائد سباق، غير آبهةٍ بنظرات المتعجبين حولها.
***
بدأت الأجواء تأخذ منحنيات غير متوقَّعة، صعود أسهم تنظيمات أخرى، والمنافسة تجلَّت في أكبر فصيلين فلسطينيَّين. ساءت ظروف تنظيم مصطفى، حيث تحفَّظت بعض التنظيمات الأخرى عن الدخول إلى الانتخابات، بسبب رفض اعترافهم باتفاق أوسلو. وسيدخل الانتخابات إحدى كبرى الفصائل في فلسطين، والذي سيكون منافسًا قويًا للحزب الحاكم الحاليِّ، وربما سيتفوَّق عليه بسبب أيديولوجيَّة المقاومة الذي يتبناها، ورصيده من العمليَّات في العمقِ الإسرائيلي، فقد أوضح أحد عناصر المكتب السياسيِّ للفصيل أنَّ الحركة ستعتمد خطابًا سياسيًا جديدًا بعد دخول المجلس التشريعيِّ، دون الحاجة فيه إلى التفاوض مع إسرائيل، وأكَّد أيضًا على تمسُّك الحركة بسلاح المقاومة كخيارٍ إستراتيجيّ في سياق العمل السياسيِّ، رغم عدم وضوح هذه القضيَّة الشائكة، لكن تمَّ سردُها بطريقةٍ تخدمُ الحركة.
بدأت الانتخابات مرحلةً جديدةً من عمليَّات المساوَمة على استحواذ التنظيمات الكبيرة للفصائل الصغيرة.. العروضُ جيَّدة، والأجهزةُ الأمنيَّة في مرحلة غربلة، الداعمون والمموِّلون للتنظيمات يتزايدون.. تجارٌ.. أطرافٌ غير معروفةٍ.. وحتى بُلدان وحُكومات. سيتمُّ استخدام التنظيمات الصغيرة في نَخرِ السُّمعة الانتخابيَّة للتنظيمات الكبيرة، شيءٌ يشبه الحرب بالوكالة..
من يَخْشون المراهنةَ على الحالة السِّياسيَّة من أصحاب رؤوس الأموال يستعدون للرحيل، وأولئك الذين فاحت رائحةُ سُمعتهم السيِّئة يرسمون خُطة الخروج الآمن..
قوى إقليميَّة وعالميَّة مُستاءةٌ من عمل الأجهزة الأمنيَّة، التي أنفقت عليها الكثير من الأموال، بسبب فَشَلِهم في التصدي للحركات الداخليَّة الأخرى، وضَعفِ شعبيَّتِهم، في مقابل ارتفاع شعبيِّة فصائل أخرى مموَّلة من أطراف أخرى..
وكالات الأنباء في فلسطين كثيرة، والتي غالبًا ما يملُكُها أحدُ المسؤولين. تبدأ رحلتها في استغلال أيّ خبرٍ لصالح المُرشَّح الانتخابيِّ أو التنظيم المقرَّب من الوكالة.. الآن، نشرُ الإشاعات وارد، فَبرَكَةُ الأخبار، التلاعبُ بالعناوين، الكلُّ ينتهج سياسة: "كلَّما كرَّرت الكذب أكثر كلَّما كان أقرب للتصديق"..
وعادةً ما يصدِّق الناسُ تلك الأخبار التي تتوافق مع انتمائهم، والتي وإن كانت كاذبة، فهي بالنسبة لهم حقيقةٌ، إذا ما تجلَّت بالتوافق مع توجُّههم السياسيِّ..
كثيرون هم المرشحون، ولكنَّهم مع مرور الوقت يتساقطون واحدًا تلوَ الآخر وهم يصعدون إلى رأس هرم السلطة!. الحسابات تغيَّرت بالنسبة لمصطفى الآن، فالمساومة على تنظيمه لا محالة هو الحلُّ الأفضل للتنظيم. على الأقل سيضمن وعودًا بوجودهم في السلطة دون عناءٍ كبير، خصوصًا وأنَّ حظُّهم بدا مستحيلا بعد توافق تنظيمات أخرى على الدخول للانتخابات التي رفضتها في البداية..
***
وَصلَت مريم للمقر، توجَّهت مباشرةً لعمِّها، كانت حذِرَة وقلقة في نفس الوقت، استَوقَفَها رأفت في الممر أثناء توجُّهها للمكتب..
وقفت مريم لرأفت، الذي بادر بإلقاء التحيَّة عليها:
- كيف حالُكِ؟
- الحمد لله، هل عمِّي متواجدٌ في مكتبه؟
- نعم، لكنَّه في اجتماعٍ الآن مع سكرتير مدير الجهاز. ولا أظنُّ أنَّه من الممكن مقاطعته. 
- أوكِ، لا بأس سأعود أدراجي..
- يبدو عليك القلق، ماذا حصل لكِ؟
تردَّدت قليلًا ثم أجابت قائلة: لا شيء
- لا أظنُّ ذلك، تعالي معي إلى المكتب..
ذهبت معه وهي تعيش حالةً من التهوُّر نوعًا ما، لا يحكم تصرُفَاتها عقل. جلست على الكرسيِّ، وجلس أيضا رأفت، وطلب منها أن تخبرَه ما الأمر، فلا يوجد تكليف بين مريم ورأفت، فهي بعمر بناتِه، وهو -بعيدًا عن ظروف العمل- صديقٌ للعائلة ورفيق الرحلات لها..
استجمعت مريم قِواها وسألته لا شعوريًا:
- أنت تعرف يوسف؟، ابن أبي مصطفى الشيخ، الذي قام ببناء بيتِنا الجديد في تلِّ الهوى، والذي كان جارنا سابقًا، حين كنا نقطن في المخيَّم..
- نعم أعرفُهُ، لكن هل يُعقَل هو سبب انزعاجك؟
- لا ليس بالضبط..
بقيت صامتة للحظات، إلى أن كسر رأفت اللَّحظات مبادرًا بسؤالها:
- هل أزعجك بشيءٍ؟ هل تعرَّض لجمعيَّتِك بسوء أو ما شابه؟
كان هذا بالطبع التساؤل الذي قد يطرَحُه رَجُل أمنٍ، فلا مساحة للحبِّ في الأجهزة الأمنيَّة، مُجرَّدون من كل ذلك..
أومأت له بيديها مشيرة له بالنفي، ثم سألته بشكلٍ مباشر:
- هل هو مَقبوضٌ عليه عِندكم في الجهاز؟
ظهرت على وجه رأفت عَتَبَاتُ صَدمةٍ، لكنَّه استملكها كي لا تَلحَظها مريم، فليس من الجيِّد أن يُحدِّثَها عن أيِّ تفاصيلٍ دون علمِ عمِّها، الذي هو في الأصل من اعتقلهُ!
توجَّه نظرُه صوب عينيها وصمت لأقلِّ من دقيقة ثم قال:
- أليس أمر يوسف قد انتهى؟ وأنتِ قلتِ لي حين كنَّا نجلس في المطعم وحدنا، قلت بمحضِ لسانِك منذ ثلاث سنوات بالضبط إنَّك لا تحملين تجاه يوسف أيَّ مشاعر غير الأخوَّة والاحترام، وأنَّ لا حبَّ في الموضوع؟ وها أنت الآن كلُّ ملامح وجهك ومشاعر خوفك تفضح سِرَّك، وأنا أعرف أنَّك تجتهدين كثيرًا في هذه اللَّحظة لإخفاء تلك المشاعر..
حاولت أن تحزُم مريم جلستها، وأن تكون أقوى بشخصيَّتِها أمامه، وحاولت مُقاطَعَتَه قائلةً: 
- عفوًا ليس لك الحقُّ أن تكلِّمني بهذه الطريقة وأنا سألت عنه لأن صديقته كلَّفتني بذلك..
 قال لها:
- أشكُّ في ذلك يا مريم، أنا أعرفك جيدًا، أنا أكثر من يعرفك، كان عمُّك حين يعجز عن التعامل معك يرسلني إليك لأعلم منك ما دار من حوار بينَكما، وكنت أسعدُ دائمًا بسماعِك وثِقتك التَّامة بي..لكن هل تعرفين خطورة ما تتحدَّثين به الآن؟
بدايةً يوسف ليس معتقلٌ لدينا، ولا في أيِّ فرعٍ آخر من فروعنا، وسأتأكَّدُ من ذلك الآن. 
استدار نحو الكمبيوتر، وحركت هي نظرها تُجاه الشَّاشة..
- سأبحث عنه في كلِّ السّجلات الأمنيَّة
ثم ما إن وجد ملفَّه قال لها:
- كلُّ ما في ملفِّه أنَّه اُعتُقِل مرةً إثر اختراقه لأحد المواقع الإلكترونية الخاصة بجهاز السّلطة، لكن تمَّ الإفراج عنه، بعد أن توسَّط عمُّك لذلك، ولعدم بلوغه سن الـ 18 آنذاك..لا توجد أيُّ تقاريرٍ أمنيَّة عنه باستثناء أنه أخٌ لمصطفى، الذي هو بالأساس مطلوبٌ أمنيًّا لقضايا داخليَّة كما تعرفين منذ سنوات..
كلُّ ما أُريد قوله لك الآن، سؤالك عن يوسف ليس عبثًا. واضحٌ أنَّك متواصِلةٌ معه منذ فترةٍ طويلة، وهذا ما جعلك تشعرين باختفائه وليست صديقته، فلا أعتقد أنَّك قد تسدين خدمةً كهذه لصديقة..ليست الأمور بهذه السّذاجة، وأنت حين تكذبين عليَّ دائمًا تتحاشين النظر إلي. ومن خصال شخصيَّتك، التي أعرفها جيِّدًا، أنَّك لو كنتِ على حق، لا تتركي لي مجالًا كي أقول لكِ كلَّ هذا.
أريد أن أُشير إلى خطورة علاقتك بيوسف من الناحية الأمنيَّة، ليس لسوء أخلاق يوسف، فأنا أعرفه جيدًا، فهو صديق أخي كما تعرفين.. ولكن لأن مصطفى مطلوبٌ أمنيًا منذ سنوات لأجهزة السّلطة للتحقيق في قضايا تخصُّ الأمن الوطني، وقضايا تتعلَّق بتهريب السلاح، ناهيكِ عن أنَّه قد يكون مطلوبًا لإسرائيل أيضًا.
ويجب أن تراعي الفروقات الاجتماعيَّة بينكما، والأسباب التي حدثتُك عنها سابقًا وتأقلمتِ معها عبر السنين.
أنت من عائلة مدنية، وفي عُرفِ عائلتك لا يُسمح لكِ بالزَّواج من شخصٍ لاجئ ذي أصولٍ فلاحيَّة.. وأعتقد أن هذا قد ذكرتِه لي قبل ثلاث سنوات لتنفي علاقتك مع يوسف، بعد تلك الرسائل الغراميَّة التي وجدتها زوجة عمِّك في غرفتك وأعطتها لعمِّك..
المشكلة ليست في يوسف، بل في كلِّ ما يحيط بظروف يوسف وما يحيط بظروفك. الظروفُ كفيلةٌ بأن تغيِّري مجرى كلِّ شيء..
لا أريد أن أكرِّر ما اتفقنا عليه منذ ثلاث سنوات، سأكتفي بتذكيرك بأنَّ سؤالك عن يوسف كفيل بأن يصيب عمَّك بالجنون لحساسيِّة علاقتهِ مع أخيه..
***
شعرت مريم بشيءٍ من الرَّهبة، رأفت يتمتَّع بأسلوب مقنَّع في الحديث، يكاد يكون الوحيد الذي يستطيع أن يجعل عقلية مريم تلين، حتى أنَّها حين ذكر بأنَّ عمَّها سيُصاب بالجنون لو عرف بسؤالها عن يوسف، قالت له: 
- لكنك لن تقولَ لعمِّي إنِّي كنت هنا لأسأل عنه..
ردَّ عليها قائلًا:
- أعدُك بذلك، وسنتحدَّث في هذا الموضوع لاحقًا باستفاضة، فليس هناك الكثير من الوقت أمامي للحديث عن هذا الموضوع. عودي للبيت وسأكلِّمُك لاحقًا..
سلَّمت مريم على رأفت بيد فيها شيءٌ من الانكسار، ثم تحرَّكت للخروج، وتوَّقفت عند الباب للحظة كأنَّها تريد أن تسأل عن شيءٍ مرةً أُخرى. وما إن استدارت إلى رأفت، حتى كانت نظرته صوب عينهيا كفيلة بأن تُلغي فكرة السؤال، لحرجها منه..
خرجت مريم من المكتب، ثم استدارت إلى الممرِّ الخلفيِّ المُختصر، الذي يُوصلها عبر سلَّم الطوارئ إلى مخرج الكراج، حيث وضعت سيارتها هناك..
خرجت من المبنى، ثم قطعت الطريق من خلال الحديقةِ، حيث لم تكن هُناك طريقةٌ للمرور إلاَّ من هذا الاتجاه. وأثناء هروَلتِها على تراب الحديقة، أفزعها صوت قطةٍ سوداء، فتجمَّدت في مكانها، ثم صارت تُبَسبِسُ للقطة، فتارةً تقول لها "روحي ولك روحي"، وتارة تُبسبِس وتشير لها بيدها للابتعاد..
ثم فجأة، رمى أحدهم حجرًا على القطة، فهربت القطة سريعًا. رفعت عينيها بالاتجاه الذي رُمي مِنه الحجر، فرأت شخصًا خلف الشُّبَّاك الحديديِّ، الذي يوضع على غرف الاحتجاز..

وما إن جاءت عينيها بعينيه من بعيد، حتى شعرت بأنَّها تعرِفُه! تقدَّمت باتجاهه خطوتين، ثم قالت وهي مذهولة: 
يوسف!..
****
يتشكَّلُ عقل مصطفى من قاعدةٍ مذهبيَّة ومنهاجٍ فكري، مثله مثل الآخرين، ولكن يختلف في تفسير وتأويل الأحداث. رُغم ذكائه وأسلوبه، إلاَّ أنَّه تربَّى على عقليةٍ متعصبةٍ جدًا، تَملأُ قلبَه بكراهيَّةِ كلِّ ما هو ضِدَّهُ، يتحوَّل قلبه شيئًا فشيئًا إلى حالةٍ من النرجسيَّة، يشعر بأنَّه الوحيد على حق، وهذا الشُّعور يمنحهُ مَلَكَةَ المساومَة على أيِّ قضيَّة، بناءً على منهجيَّةٍ عقليَّةٍ في تقدير الأساطير المُلصقة بفكرة ما، فيسعى بشكلٍ أو بآخر لتحقيق أهدافه بطريقةٍ ميكافيليَّة، دون أن يشعر.
وممكن أن يمنح نفسه سُلطة ممارسة فعلٍ، ويحرِّمَهُ على غيره، ويؤوِّل هذا على الأسباب، فتراه يُهاجم أكبر عدو للمجتمع المحيط به، فيَنتُجُ عن ذلك تسليط الأضواء عليه، فتحيطُه بالاهتمام، وتبدأ بخلق سُلطته الخاصة، ثمَّ سُرعان ما يزداد تأثيره بسبب مهاجمة الأطراف المعارضة له، إذ تخلقُ لديه حالةً من العناد، وتبدأ من هنا معاناته في الوصول للسلطة المطلقة، ومعاناة الشعب في التَّعامل مع أشباه الفراعين ..
داخل أحد المستودعات، جلس مصطفى على الأرض، وإتَّكَأ بظهره على الحائط. كان معه صديقُهُ أبو صهيب، أخو المغدور به من قبل جهاز العقيد نبيل. وخلال دقائق، بدأت تتوافد عناصرٌ من التنظيم مدجَّجين بأسلحتهم إلى المستودع، الذي يملكه أحد أفراد التنظيم، والذي يعمل في تجارة القمح والزيت. 
وقد كان المستودع يتسع لأكثر من 100 فرد.. و خلال نصف ساعة اكتمل الحضور تقريبًا، بما يقارب سبعين فردًا من اللجان العسكريَّة والسياسيَّة للتنظيم..
كان مصطفى يتكلَّم بسريَّة مع أبي صهيب، إلى أن جاء أحدُ الأفراد ونصب المايكرفون أمامه، فشرب كأسًا من الماء، وأمسك المايكرفون، ووقف على ارتفاع وكأنه منبر. في هذه الأثناء، توجَّهت كلُّ الأنظار والانتباه إليه، فبدأ يخطب بهم مُستهلًّا حديثه بالاستغفار والحمد والتهليل، مستشهدًا ببعضِ الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة، ثم أردف قائلًا:
- أيُّها الأحباب، قبل أيامٍ قلائل فاجأنا بعضُ من سلَّم رقَبتَهُ للشيطان، وجعل مصلحة العلمانيَّةَ والسُّلطة إلهًا يعبد من دون الله عز وجل، فاجأنا مفاجأةً، وقد أقدم على هذه المفاجأة بعد أن أصابَه الغيظُ من الأعداد الكبيرة من المجاهدين المتوافدين إلى التنظيم، فقرَّر أن يقفَ ضدَّ هذا التدفق الكبير، فسعى إلى محاربة المجاهدين واعتقالهم، وشَرَعَ في إجراءات التضيّيق على نشاطات التّنظيم الإعلاميَّة، والتي تدلِّل على الخسَّة والحقارة والتصرُّفات القذرة والرخيصة، وعدم معرفته بعواقبِ تلك الأمور.. ولكن سبحان الله العظيم.
- قلت سبحان الله، سبحان الله!.. هل هنالك من يفكِّر في إبْطَالِ مسيرةَ النِّضال والعطاء ونشر الإسلام الصحيح على سنَّةِ الله ورسوله؟ أولئك الذين باعوا القضيَّة في أحضان أوسلو والمؤتمرات البائسة والمفاوضات؟ ممَّا يخافون؟ ممَّا يخشون؟ من أمريكا!! من إسرائيل!! من بريطانيا! من الاتحاد الأوروبيّ! فالله أحقُّ أن تخشوه وتخافوه... فالله أحقُّ أن تخشوه وتخافوه...فالله أحقُّ أن تخشوه... 
فلماذا جعلتم الله عزَّ وجلَّ أهون الناظرين إليكم؟ أما سمعتم قول الله عزَّ وجلَّ (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدُّون عنك صدودًا)؟ فلماذا أراكم ترغبون في كلِّ شيءٍ إلا في أخذ الدين بقوَّة؟.. أراكم لا ترضون؟.
وهنا أريد أن أشير.. لقد سجَّلت السُلطة العديد من التجاوزات والاعتداءات بحقِّ التنظيم وشبابه، فلقد قامت بمداهمة أكثر من 7 مقراتٍ للتنظيم على مدار الثلاث شهور الماضية، واعتقال أكثر من 20 فردًا من خيرة أبناء التنظيم، وقد قامت بتجميد أموال التنظيم والتضيِّيق عليهم في البنوك، وقد استهدفت الكثير من أبناء التنظيم الثقاة في مناصبهم، فقد عزلت مدرِسيْن من عملهم، وسحبت تراخيص من مصالحهم.. والكثيرَ من تلك التجاوزات التي لا يطيقُ القلب أكثر في السكوت عليها..
وأخيرًا، لقد قامت الأجهزة الأمنيَّة في الأيام الآنفة بقتل شبان من خيرة شبابنا، الذين كانوا يُجَّهَّزُون لتنفيذ عملياتٍ استشهاديَّة، بل ولم تكتف بقتلهم، بل رمت بجثثهم في المستقنعات القذرة. ومن هنا، أريد أن أقول: لقد بلغ السيل الزبى، وعليه: نحن لم نبدأ بالاعتداء على أيٍّ من عناصرهم، فهم أخواننا. ولكنَّهم هم من بغوا علينا، والأمر وصل إلى أنَّهم استحلوا دماءَنا وأموالنا ويتَّموا أطفالنا، وسيتمُّ معامَلتَهم على قاعدة المعامَلة، بالمثل استنادًا إلى قول الله عز وجل: "ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمَّ بُغِيَ عليه لينصرنَّه الله إن الله لعفوٌ غفور"
ولذلك، اسمعوها مدويَّة، من استحلَّ دماءنا سنستحلُّ دمَه، ومن استحلَّ أموالنا سنستحلُّ ماله، ومن يتَّم أطفالنا، سنيتِّم أطفاله، وعند الله عز وجل تلتقي الخصوم. فمن قُتِلَ دون دمِه فهو شهيد، ومن قُتل دون مالِه فهو شهيد، ومن قُتل دون عِرضِه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينِه فهو شهيد.
و بناءً على التوافق بين القيادة السياسيَّة والعسكريَّة للتنظيم، نصدر البيان الأول، نقول وبالله التوفيق بعد أن توكلنا على الله عزَّ وجلَّ وأخذِنا بأسباب العزِّ والتمكين، فبإذن الله ومشيئتِهِ نعلن أن:
1- «كلُّ ابن آدم خطاء، وخير الخطَّائين التوّابون» ونعتبر مشاركتنا في انتخاباتٍ خارجةٍ من رحمِ أوسلو خطأً، وسنعتَدِلُ عن المشاركة بها، لذلك قرَّرنا بتوفيقٍ الله الانسحاب من الانتخابات، ودعم التنظيم الأقرب لدين الله والأوفر حظًا ضدَّ أولئك العلمانين، كي لا تتشتت ولا تتفتت أصوات المسلمين في الانتخابات القادمة ويستمرَّ الخارجين في السلطة..
2- سنعيدُ سبُلَ الجهاد ضدَّ الأعداء، وضدَّ أعداء الجهاد، ونعيد طعم الحياة وكرامتها، والتي يُعزُّ فيها المؤمنون ويُذلُّ فيها الكافرون. فأجهزة السلطة تعمل ضدنا وضد جهادنا، لذلك أعينوني بقوَّتكم لأن نجعل بيننا وبينهم ردمًا..
3- وأما بالنسبة للعقيد نبيل، فلقد تركناه في بحبوحةٍ من أمره، إلى أن تجاوز الخطَّ الأحمر. وعليه، فقد توافق المجلس العسكريِّ والسياسيِّ على قتلِه، لارتباط اسمه بتعذيب واعتقال عدد من المجاهدين، وأخيرًا قَتلَهُ خيرةَ شبابنا بأبشع وسائل التعذيب..
وفي النهاية، لا يسعني إلاَّ أن أقول: اللهم انصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا وصلِّ اللَّهم على محمد عدد الذاكرين وغفلة الغافلين..
ثم سألهم أن يصطفُّوا للصلاة، وصلى بهم بعد هذه الخطبة، كأنَّه أدخلهم في دينٍ جديد!.. لقد قال يومًا محمود درويش عن الخطابة:
 ”الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب، وفي الخطابة يكون الصدق ذلَّةَ لسان“
لكنَّ مصطفى لم تسقطْ منه ذلَّةُ اللسان!
***
بعد أن رأت مريم يوسف محتجزًا، وتأكَّدت من أنَّ عمَّها من قام بذلك، كان لديها شعورٌ داخليٌّ بمعركةٍ تُطبق عليها. حدةُ التّفكير، التّوتر، الضّغط، الفرح، الخوف، قلَّةُ النوم..كلُّ ذلك بدأ منذ رأته مُحتجزًا. 
لكنَّها كانت تشعر بأن جيش الفرح يتوافد إلى داخلها، وتتهاوى جيوش التوَّتر والخوف أمامه، بل تغيَّرت أيديولوجيَّات الكثير من المشاعر الأُخرى، وانضمَّت لحزب الفرح في داخلها، كأن الحبَّ مثلَ الشمس ماضٍ متجدد، ماضٍ إذا ما جاءَه المخاض، سيُرزَقُ بفرح..
لقد كتبت عن هذا اليوم في مُذكَّراتها ليلًا، حيث تميل كلَّ ليلةٍ لأن تعترف بأفراحها وأحزانها، كأنَّها جلسة اعترافٍ ترنو بها إلى تطهير آثامها. كتبت في تلك الليلة عن يوسف:
لا أعرف كيف أبدأ كتابة هذه المذكَّرة، التي ستكون الأهمَّ في حياتي.. تحبسُكَ الجدران، وتَحبسُني دموعي.
إنَّ الحبَّ انفعال، انفعالٌ أثرى فرضيَّة المصادفة، وأوقعني في شباكك دون تعمّد -محض قدرٍ ليس أقلَّ وليس من ذلك أكثر- مع خالص يقيني التام بالقدر، وإيمانيَّ المعدوم بوجود الصُدف، بتُّ أشعر أنِّي أحمل من الحبِّ لك ما يستَبِيح حُرمة الحبِّ بحدِّ ذاته، نظرًا لظروف هذا الحبّ الذي أتعجَّب من مدى تكيُّفي معه، وكأنَّه أصبح كَتُراثٍ لكَ فيه حصَّةُ الأسد، لأسبابٍ روحيَّةٍ أجهلُها.
 كنتُ ألثُم الحبَّ بكوفيَّة التجاهُل، لأجِدَه يُبصِرَني بعينيه التي كتب الله عليها الحب. كان حبُّك واضحًا كعين الشمس، لم أكُ بحاجةٍ لدليلٍ أو حتى تلميحٍ.. كانت عيناك تقوم بواجب التصريح دائمًا.
أدركت أخيرًا أنِّي قد كابرت كثيرًا حدَّ السذاجة. كنت أُحاول التَّخفي وراء ستائر الكبرياء، مع يقيني التام بأنَّ تصرُّفاتي هذه تُتسبِبُ لك بضيقٍ وضجر، لكنِّي لا أجد إجابةً تُصيب سهم الإقناع بخصوص هذه السياسة التي يمارِسُها العشَّاق، وبالأخصِّ العاشقات، كأنَّ الكبرياء فرضٌ من فروض الحبِّ عند الإناث في البدايات. أودُّ أن اعترف لك بمدى حِقدِي على كلِّ لحظات التَّكبُّر التي كنتُ أحرم نفسي فيها منك طوعًا.
قبِلتُ لنفسي أن أكون لصَّةً من أجلك يا يوسف، نعم لقد كنت لصَّة بأعلى درجات الاحتراف، وغفلَتُك عني هي الدليل. إنَّك تجهل هائل اللحظات التي كنتُ أتأمَّلُك فيها بعيون متخفيَّة، خِشيَة ألَّا تَلحَظَني أبدًا، حرصًا مني على قدسيَّة كبريائي. لقد كنت أعلم أنَّ هُناك حبًّا ينتظرُني في قلب سيادتك، وقد أدركت مؤخرًا أنَّ وجودك في حياتي لم يكُ محضَ صدفة وحسب، إنَّه القدر يا حبيبي، إنَّه حُكم الربِّ الأعظم.
كنت أشعر بنيران الشوق التي تلتهم جوفَك، كلَّما أخطأت عينايَ لتُصيبَك بِقصدٍ منك. ولا أُنكر أنِّي كنت ألتمسُ رغبتك بالاعتراف، في كلِّ مرةٍ كُنت تهمُّ بها محاولًا الاقتراب، لتُطلِقَ لجرأَتِك العنان وتضغط الزِّناد لتُصيب قلبي بصراحتك، لكنَّني لم أكن قد أقلعت عن التهرُّب منك بعد، أنا من جعلت منكَ وليمةً للتردُّد في الوقت الذي كنتَ فيهِ قد أدمنتني حقًا يا يوسف.
أشعر وكأني شبيهة جرسٍ مُعلَّقٍ، يترنَّح بين السعادة والحُزن، لا يُوقِفه إلَّا الحب. هذا الحبُّ الذي أتعبته وهو يناجيك بصمته رغمًا عني، كان عنيفًا شوقي لك، كنت أمامه كطفلٍ يقاوم دبَّابة، يَقذِفُني دون رحمة ولم يراع فرق قوَّته وضعفي. لم أكن مطيعةً لأوامر قلبي، الذي كان يقاوم حبَّك متمنعًا عن اللُجوء إليك.
كنتُ أشعر بعينيك المستنجدةِ كلَّما نَظرْتَ إلى السماء، وكأنَّك تحاول دغدغة القدر ليبتَسِم ويكتُبُني لك. كنتَ تؤمن أنَّ القدر مصدره السماء، لم تكن كثيرَ التفاؤل بقدر ما كنتَ متشائمًا. الإنسان يميل إلى الحزن بطبيعته، حاول أن تستعيدَ واحدةً من الذكريات لديك، ستجد نفسَك تتذكر ما يُحزنك تلقائيًّا.
كوني ابنة المدينة، كانت هذه مسألةً تُثير قلقك إلى حدٍ يجعلك تتمنى أن تكون مدنيَّا، بالرغم من عشقك لأصولك القرويَّة بشكل مُلفِت. كانت هذه أكثر الأمور التي تبثُّ خوفك من مستقبلٍ كنتَ قد هندستَهُ لنا بأدقِّ التفاصيل في خيالك، المفضوح من بريق عينيك الأخَّاذ. كنتَ تجيد مهارة التفكير بالمستقبل أكثر منِّي. ربَّما هذا ما كان يجعلُني أبدو قويَّةً بحجم السماء أمام حبِّكَ، الذي يترعرع في قلبك كَــلطيمٍ، وفي قلبي اليتيم. 
أحيانًا كنت أشعر بأنَّ الحبَّ جاهلٌ أميٌّ، لا يفقه شيئًا، تمامًا كالمرض لا يكترث لمن يُصيب، يغضُّ بصرَهُ عن كل التفاصيل، العمر، اللون، الأصل والفصل، لا يجيد إلا أن يصيب فقط. كنت أشعر بنرجسيَّةٍ اضطراريَّةٍ أُمارسها عليك، بالرغم من مدى التَّجرُّد المرسوم في خريطة ملامحك الفتَّانة.
كنتُ ولا زلتُ أشتاق لك بـقدر شوق العاشقين وأكثر، إلى حدِّ الجنون والفقدان. تمامًا كما هو عشق الثوريين للوطن، نموت له وفيه ولا يموت فينا حتى وإن متنا. هذا الحبُّ مني وفي، كما هو الدمُ في أوردتي. دعني أكون قتيلةَ ثورةٍ، ثورةُ حبِّك لي وحدي، وكأنَّما أقاوم بعدَك لأنتهي من هذا الحرمان. هلا أستجديك فتخلِّصُني من جحيم هذا البعد؟ خُذني إلى جنةٍ هيَ بين ذراعيك، كبِّلني لأعتنق اسمك ويصبحُ في تاريخ العشق ليلى وليلى وقيسان. أحبُّك إلى حد الإدمان .
لا أدري ما سرّ هذا الحبِّ الذي يُجبرني على التعاطف معك "أنت"، لتتآمر نفسي على نفسها ضدِّي! أيُعقل أن تكون قد تفوَّقت عليَّ، لتُصبح محتلًا كـلَّ أولويَّاتي؟! إنَّك تُرضي كبريائي بسلاسةٍ تُذهلني، لم أكن هكذا يومًا، كيف أتساهل معك إلى هذا الحد!! أشعر وكأنِّي عاطفيةٌ إلى حد السذاجة …
أنا لا أُنكر سُكناك فيَّ، لكن هذا لا يعني بأنْ أكون في المنفى لكي تحتلَّ داخلي "أنت"!! 
علِّمْنِي كيف أتوب عن التعلق بك. أشتاقك بعنف، وكأنما هذا الشوق يلتمس فرصة توحُّدي في غيابك عن ذهني، ليغتالني بك في ذاكرة تسكنُها بتفاصيلك، وتجوب فيها دون تعب. 
كنت كنجمٍ يشعُّ في سمائي يُنعشني تأمُّلُه، لكنَّه ضاع في ليلةٍ غاب فيها القمر. تركتني كطفلةٍ في وسط غابةٍ، كمشهدٍ من فيلم رعب، لكنّه كان واقعيًا ذاك الشعور بالخوف، حينما لم أعدْ أراك، ولا يسعني البحثُ عنك. ليس ذلك وحسب، بل ‘نني لا أجرؤ حتى على السؤال عنك، لأنَّك كنت سري الذي لطالما احتفظت به بين نفسي وأنا.
قد تتجسَّد الغرابة بأحقِّ أشكالها، عندما أسترجع اتخاذ الأمور لمنعطفٍ غير متوقع. كيف كانت الأمور بهذه العفوية الكاملة، التي لم أعهدها من قبل ولا في أحلامي، حينما فقدت سيطرتي وشعرت بنفاد الصبر، لأجد نفسي أقودُ سيَّارتي مُتجهة إلى طريق السجن، باحثةً عنك دون وعي.
***
ثمة الكثير من لذة عمري أكلتها زهورُ النرجس، الكثير يا مريم من زهورٍ زرعتها أمام سوسن حبِّي، وكنتِ ترعينها وتسقينها برفق وتداعبينها كفروٍ لقط..
لا أدري هل أنا ضحيَّتُك؟
أمّا أنا، فضحيَّة الحدود التي ارتسمت ولم أشأ القفز عنها. يُعاتِبُني قلبي اليوم أكثر، حدَّة تفكيري كانت مُتفقةٌ سرًا مع كبريائك، كانت تقتل كل ذكرياتي الجميلة معك، وتُبعِدُني، ولم أشأ يومًا أن أبعد..
في حبِّك، لم أعرفْ البكاء على الأطلالِ، كانت كلما ضمرتني الأوجاع، أزاحها جسدي بضحكةٍ الأفواه.. وكنت أحلُف بِحبِّك في سرِّي، بيني وبين نفسي، كي أُقدِّس وعودي وأَيْمَاني أمام ذاتي..
أتعرفين كم شئتُ أن أقولَ أُحبُّك، وعدت خائب الرجا، لمحض إيماءةٍ منك تقول لي ليس الآن..
وها أنا الآن أُحبك، بعذوبتك، وطفولتك، وبكل أوجاع الحياة..
فحين أُحبُّك أقولُها، تتبسم شفتاي..
يا قدري، يا منفاي..
محاطٌ أنا بجدرانٍ ثكالى، بتهمةٍ مشبوهةٍ، لا أدري من أيِّ تكوينٍ هبطت..
يغذِّي حبَّك في أحشائي مستحيلٌ ماكرٌ، تحالف مع الأوجاع ليزيدَ من حضور آلامك معي..
إلهي! لماذا أنا مُتشرِّدٌ بين ألف بينٍ وبين؟.. هل صِرت ابن شهيدٍ كي يُعاتبَني الناس على أيِّ خطأ، وكأنِّي نبيٌ أو صحابي، وما لغيري من أخطاءٍ لا يحقُّ لي، لأني ببساطة ابن لشهيد، ولم أرغب يومًا أن أكون كذلك؟! هكذا القدر شاء، والحمد لله على كل قضاء..
صار أيضًا ممنوعٌ عليَّ أن أحبَّ، لسذاجة الموروث التقليدي للعادات، أسوة بالمثل السخيف "على قد لحافك مد رجليك"..
إلهي! لماذا هذا حالي؟
لماذا أنا هنا؟ لا شأن لي بكلِّ المهاترات السياسية بين أخي ونبيل. لا شأن لي بقضاياهم، لا شأن لي بالتفاصيل، فأنا أريد أن أحبَّ، أريد أن أعيش، أريد أن أتنفس كل صباحٍ مريم، ولا غير صباحها أريد..
أريدها بمكرٍ، بطيبةٍ، بأيِّ شيءٍ، فالغاية تبرِّر الوسيلة، إذا ما كانت غايتي الحبَّ، حتى ولو كان الحبُّ مستحيل!
أضيع أنا بألف ثقافةٍ وألفُ صراعٍ وألفُ قضيَّةٍ، شئتُ أن أنظر بعينيَّ إلى أعلى.. قلتِ أحبُّ الموسيقي وتعلَّمتُها، وفي البيت، أخي يحرِّمُها بكافة أنواع الترهيب والترغيب.
وأنا، وأنا كل يوم يهاجمُني الليل، ويكرُّ فرًا من عينيَّ النوم، ليتركَني أواجه من الحبِّ الحرمان، ومن الحريَّة الخوف، ومن الأمل الاكتئاب، ومن كل شيءٍ ضِدَّه. وما أن يتعبَّ الليل ويغيب، حتى أموت على قلمٍ أنشر به أوجاعي، وأنشر به أحلامي، وتمزِّقها بعد وهلةٍ يداي..
وأنا اليتيم، اليتيم في حبِّك مريم، تعلَّمت كلَّ ما لا أنتمي إليه، كي أنتمي إليك.. كي أكون بقربك. لم أعرف يومًا كيف أصفُّ الحروف والكلمات لأنثر معانٍ تحوم حولك. لم أعرف الفرق بين البيانو والأورج إلا لكي أصبح قريبًا من رؤياك، ومولعًا بما أنت مولعةٌ به. حفظت نوتات فيروز وسيد درويش وعبد الوهاب وياني وعُمر خيرت وجوليا بطرس وماجدة الرومي، وكل من تُغرمين بهم من عمالقة، لأجلك.. أقسم أنِّي تعلَّمت كل هذا لأجلك..
آه لو تعتبري كل هذا مهرك!
كنت أتلصَّص يوميًا على حساباتك، وأعرف ما تسمعين، وكل الأشياء التي بها تُعجبين. إذا احتجتِ إلى أغنيَّةٍ في الليل، أتجسَّس على حسابك لأرى اسم آخرِ أغنية كنت تسمعينها وأسمعها على أثر ذلك، ولا أتوقف عن سماعها، أُدمنها حتى يملُّ صوتي مني، من تكرار ترديدها يومًا فيوم..
ها أنتِ اليوم، تعترفين لي بِحبِّك، وأنا عاجزٌ عن احتضانك، أفتك من أضلعي التصاقًا بأضلعك. اليوم، حين قُلتِها ويدايَ تلمس يديكِ، شعرت بقلبك ينبض في عروقي، بهمسةِ البرد والخجل التي انتابتك فأصابتني، وبضحكة قلبك وخوفه..
كان لقاؤك حيلةً من القدر، أولُّ حيلةٍ ليست ضدِّي، صدفةٌ كان لقاؤنا، وما أجملها من صدفة. أتذكرين ما قلتِه يومًا لي عن الصدفة في المسرح؟ أول لقاء حُرٍّ بيننا، حين تحايلت بازدواجيَّة المفاهيم التي تؤمنين: الصدفة هي تلك الابتسامة التي يرسمها ذلك الفنان المتمرِّس، الذي يرسله القدر لينثُرَ رذاذ الماء على داخلك المحترق!
أحفظُ كلماتك تلك عن ظهر قلب، وكأن هذهِ الصدفة تختزل الحبَّ المكبوت فيَّ منذ سنين، منذ سنين يا عمري، بل منذ خُلِقْت..
أنا آسف يا حبيبتي، لا أستطيع اليوم أن أحتفل بِحبِّك، سأحتفل به بذكراك وسموِّ قلبي أو قلبك لا فرق، لا حاجة للياء ولا للكاف..
معجزةٌ لقائي معك، كان بلا مقدمات، بلا تفسيرات، وكأنَّ كلَّ شيءٍ أصبح واضحًا أمامنا، وكل الخيوط تتفكَّك، وكلُّ سدٍ كهلٍ تفتت..
كنتِ قويَّة وجميلة، لم تحتاجي لأن تسأليني عن الأسباب، ولا أن تشرحيها.. فهمتُ كلَّ شيءٍ من عينيك، وبغفوةِ رمشكِ الأوَّل مسحتِ كلَّ ألمٍّ، وأصبْتِ وحدَتي برعبٍ ففرَّت منِّي..
كيف تكونين دائمًا بهذه العبقريَّة؟
لقد نَحتِّ أنتِ والقدر هذا اليوم بكافة ثوانيه بتمرُّسٍ، لم أكُ أحتاج منك لأن تقولي مرحبًا، فقد كنتُ أكرهها، كانت تلك الكلمة في بداية أيِّ حديثٍ لي معك توَّقِف تدفُّق مشاعري، تقتلني برسميَّتها..
ما أجمل أن أتذكَّرك، تنتابُني حالةٌ من الفوضى، واللا وعي، والعفويَّة.. تتكشَّف حلاوةُ الأيام واللحظات بها شيئًا فشيئًا، كأنِّي أكلِّم نفسي وأُخلَقُ من العدم بحضورك..
كما أنا الآن؟ لا تضحكي إذا كنتِ الآن تشعرين بذلك في بيتك، وأنتِ تحتضنين وسائدك المُخمليَّة..
مريم، مريم، لا تسخري منِّي، نعم حبُّك حالةٌ مجنونةٌ، صرت أكلِّم نفسي من شدة حبِّك..
هل أبدو أبله؟ نعم أنا أبله؟ حبُّك بلاهتي، وجنوني.. باختصارٍ، كل براءة الطفولة حبُّك..
يا مجنونة، حتى التفكير بك يخلِّصني من كلِّ رتابتي والرسميَّة!
أنتِ ساحرة؟ حقيقة؟ عشتار؟ سلطانة؟
أتذكرين القهوة السمراء؟ مُزاحنا الصادق؟
لم أشرب منذ ذلك اليوم القهوة السمراء، مع أنِّي أُعاني من هلوسة مدمن. حلفتُ بِحبِّك ألا أشربها في انتظارك، وعقدتُ العزم ألا أرتشفَها إلا في حضورك، لكنّي أُخمِّر متعلقاتها بقلبي، أُخمِّرُها كي نحترق سويًا بالبنُّ والهيل والشبق..
يا مجنونتي العاقلة، سأعترف لك بسرٍّ، بما أنك لا تسمعينه ولن تشي به لأحد.
كنتُ أسجِّل أسوأ ما فيك على ورقة، فكلَّما اشتقت إليك قرأتُها، هكذا كنت أهزم الحنين ليعود 
إليك خائب الرجاء..
لكن المفارقة، بأنِّي أكتب الورقة في الليل، وتضيع في الصباح! 
أقسم بأغلظ الأيمان تضيع. لقد كتبتُها مئات المرات، لدرجة أنِّي تخيَّلت أنَّ هناك جِنيَّةً اسمها مريم، تُلاحقني لتقضي على كلِّ بواكير نسيانك!
أنا.. أنا ذلك الرجل الذي يفقد أكثر من نصف عقله معك، ويفقده كلَّه حين يكون وحيدًا، إذما تمرِّين على عقلي، ضيفةً قويَّةَ الحضور!.. حين يفرح قلبي أشعر بأنِّي أبله، أرعن، أخرق، ومغفَّلٌ قليلًا. يجرِّدني الفرح من كل الحصافة والوقار المقيت، أعيش حرًا بطيشٍ كالأحمق!
حين أخرج من هنا، لن أفعل كبقيَّة العُشاق، لن أهديك وردة، أعرف جيدًا كم من باقة وردٍ حظت يداك، سأهدِيك الاختلاف، سأهديك بُومة!
أريد أن أتمرَّد على كلِّ التقاليد والأفكار، لا تعتبري البوم إهانة، فلنتخلَّص من هذه الشرقيَّة قليلًا، ولننظر لكلِّ شيءٍ بعين القلب ولسان الجمال. البوم طائرٌ جارحٌ مثلكِ، لا داعي لأن أُذكِّركِ كم من مرَّةٍ كنتِ جارحة، والبوم كائنٌ ينشط في الليل بصورةٍ أكبر، وهل أتى ليلٌ عليَّ من غير أن تحتلي حدائقي المهجورة؟
سأهديك بومة!
كأنَّ الكون الذي قالوا إنَّه بدأ بانفجارٍ، سينتهي ونحن ما زلنا في بداية الحبِّ! سآخذك ونجلس نلامس أرواحنا على شاطئ البحر، لن نكترث بالمتعصِّبين، سأُحضِر كرسيَّ جدتي وسِجادتها، وأفرشها على رمل البحر، وأُغنِّي معك، أحبُّ بحَّة صوتك حينما تُغنِّين لفيروز!
سنُغنِّي سويًا موالًا، ستكونين فيروز وأنا نصري شمس الدين، تغنين أنتِ: "كانت على هاك العريشة تتكي...وتحكي حكي العشاق ويطول الحكي، ولمّا عصافير المواسم يهجروا...يهـب الهـوا ويعنّ ع بالا البكي.."
ويردُّ الصدى: "يهب الهوا ويعنّ ع بالا البكي!"
فأغنِّي لك وأقول: "كانت هاك الحلوة بعمر الولدنة، تبقى بعقد الياسمين مزيَّنة، تقلُّو حكيلي ع المحبة والهوى تـ إلحقـك ع آخر شطوط الدني."
فيضحك ويبتسِم معنا ولأجلِنا الوجودُ والصدى..
***
مكتبٌ مصنوعٌ من خشب السدر الجبليِّ الصلد، والذي يُستخدم عادةً في صناعة الأثاث الثمين، ذلك أنَّه يعيشُ أمدًا طويلًا محافظًا على أناقته. أمام المكتب أربعة كراسي استقبال كلاسيكيَّة من خشب الزان القوي. خلف المكتب كرسيٌّ متحرك، يجلس عليه مسئولُ ملفِّ التّحقيق مع العقيد نبيل، ويجلس نبيل على أحد كراسي الاستقبال مجاورًا للمكتب، ويجلس بجواره اثنان من مساعدي المحقق، وشرطيٌّ يسجِّل كلَّ ما يحدث في التحقيق على ورقة..
كانت هذه آخر لجنةٍ للتحقيق مع العقيد نبيل، فقد مرَّ قبل هذه، على لجنة الاستماع ولجنة تحقيقٍ ولجنة موَّسعة. جميع اللجان كانت تتخذ الاجراءات اللازمة لسلامة نبيل، بصفة عمله في الأجهزة الأمنيَّة، وبِصِفَته عُضوٌ سابقٌ في المجلس التشريعيّ، ولحساسيَّة القضايا بين يديه، فلم يقمْ مكتب التحقيقات بسحب الشرطة والحراسات الخاصة بالعقيد، الأمر الذي لم يكُن بعيدًا عن أيِّ شخصٍ يَخضَع للتَّحقيق.. كان هناك تحقيقٌ واعتناءٌ في نفس الوقت، أشبه بمساءلةٍ لتصحيح المسار، لكن بصفةٍ تحذيريَّة لا أكثر.
لقد كان العقيد نبيل ملتزمًا ومنضبطًا للجنة الاستماع، وكانت التُهَم المتكاثرة والمتوالدة، والتي تصلِ لعشرات التُهم والقضايا تتساقط، لم يكن تحقيقًا بالشكل المطلوب، بقدرِ ما كان عمليَّة ولادةٍ قانونيَّةٍ جديدةٍ لنبيل. فلم يكن هُناك أمرٌ من قِبَلِ أيِّ مسؤولٍ أعلى منه يهدُف لإقصائِهِ عن ساحة العمل، بل العكس.. فلقد خرج العقيد من لجنة التحقيقات بتوصيَّات عمليَّة لا أكثر، بسبب حساسيَّة الوضع السياسيِّ للمنطقة، والتي تتطلَّب الحذرَ، وبسبب تسريب أخبارٍ عن مقتل عدَّة أشخاصٍ في السجون، فلقد أجمعت اللجنة على ضرورة إدراكِ الموقف، وتطلَّب ذلك الإفراج عن عددٍ كبيرٍ من المُعتقلين السياسيِّن، وذلك لمواجهة أجواء التحريض والكراهيَّة بين الأحزاب وأجهزة السُّلطة، وأيضًا لوقف ممارسة العمليَّات الانتقاميَّة التي تزايدت حِدَّتُها في الآونة الأخيرة، كي لا تكونَ مدعاةً لاصطياد البعض في المياه العكرة، والتي تهدف لخلق جوٍ من المشاحنات التي تؤدي إلى حالةٍ غير مرغوب فيها..
ولقد أبدى العقيد نبيل تفهُّمه وجاهزيَّتِه لكلِّ ما أوصت به اللجنة في كافة القضايا المَطروحَة، تحديدًا المُعتقلين السياسيِّن، واعتبار ذلك مَكرُمَةً وعفوًا من السيِّد الرئيس بمناسبة عيد الاستقلال الفلسطينيّ، الذي يوافق تاريخ 15 نوفمبر 1988م، اليوم الذي نتج عنه إقامة السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة في قطاع غزَّة وأجزاء من الضفة الغربيَّة، واعتراف عددٍ من الدُول الأعضاء في الأمم المتحدة بدولةِ فلسطين.
***
بعد ثلاثة أيامٍ من اللقاء الأول ليوسف ومريم في مقرِّ السرايا، واكتشافهَا صدفةً غُرفة احتجازِه في الطَّابق الأرضيِّ، صارت مريم متواجدةً بخفيةٍ هي والمأذون الشرعي وثلاثٍة من أصدقائِها المقرَّبين، تَطَلَّب ادخالُهم المقرَّ جُهدًا وحيلةً من مريم، لكنَّها في النهاية نجحت في ذلك، بفضل سيَّاراتها التي لا يستطيع أن يرى أحدٌ ما بداخلها بسبب الزُّجاجِ الأسود (الفيميه) والستارِ المُغَشَّى الحاجب للشمس، وأيضًا لاعتياد مريم الحضورَ مرارًا إلى السرايا، ودخولِها وخروجِها من الباب الخلفيِّ الخاص بالمسؤولين والضبَّاط وكبار موظفيِّ الأجهزة الأمنية..
اتَّضح ليوسف كم هي قويَّةٌ ومجنونةٌ، بل أذكى النساء اللواتي قابلهن في حياته. اقتربتْ مريم من شُبَّاك غرفة الاحتجاز، والذي ليس له إلاّ ثلاثة قُضبان حديديَّة، ونظرت بعينيها ليوسف، تقولُ بأحداقِها اقتربت اللَّحظة، ثم همست في أُذنيه وهي تُناضل بقوَّتِها خجلَها:
- لا تستعجلْ على جنوني، ما زال لديَّ أكثر، دعه ينضج قليلًا إلى أن تخرج..
ثم التفتت إلى المأذون، الذي كان قد انتهى من ترتيب أوراق الزَّواج. كان الزَّواج سريعًا، يَنقُصُهُ الإشهار، ووليُّ الأمرِ. أمَّا قانونيًا، لم ينقصْهُ شيء..
وضعت يدها في يد يوسف، وأتمَّ المأذون قراءَة الفاتحة وعقدَ القران، وشهَّد أصدقاؤها على ذلك، الذي كان أحدُهم محاميا، وكان منوَّطٌ به تسجيل عقدَ الزواج في المحكمة بعد استقرار أحوالِهما.
كانت ترتبِكُ، وبحاجةٍ لأن تنهار أمام يوسف، لكنَّها سارعت في استجماع قِواها قدْرَ ما استطاعت، كي تُخرِج المأذون وأصدقاءَها من المكان، وتعود بعدها لتحظى بدقائقٍ قصيرةٍ مع يوسف..
مرَّت ساعةٌ، غابت فيها مريم لتُخرِجَ أصدقاءَها والمأذون، عادت لتظهرَ أمام يوسف، ولكن بصفةٍ أُخرى.. هي الآن حبيبتُه وزوجتُه!
كانت أقرب للانهيار، لولا رأفةُ قواها بقلبِها. تبادلا الصمت، ثم النظر، بدأ يوسف وهو في أشدِّ درجات الخجل الشرقيِّ يغنِّي لها بهمسٍ مقطعًا لكاظم الساهر، المطرب الذي تهواه مريم، مقطعًأ من أغنيةِ هل عندَكِ شكٌ، والذي كتب كلماتها شاعر المرأة الدمشقيِّ نزار قباني:
"هل عندك شكٌ أنَّك أحلى وأغلى امرأةٍ في الدنيا؟
وأنَّ دُخولك في قلبي هو أعظم يوم ٍفي التاريخ 
وأجمل خبرٍ في الدنيا
هل عندك شكٌ أنَّك عُمري وحياتي وبأنِّي
من عينيك سرقتُ الدار وقِمت بأخطر ثوراتي
أيتها الياقوتة والسلطانة والوردة والريحانة 
والشعبية والشرعية بين صحيح الملكات.."
ابتسمت مع غنائِه، ثم تحوَّلت ابتسامتُها لضحكةٍ لم تكن قادرةً على كِتمانِها، أصابت يوسف بخجلٍ شديدٍ، حتى أنَّ وجههُ أصبح ورديًّا..
ضحكت مرةً ثانيةً وقالت: آسفة، أجمل ما في غنائك أن صوتك رجوليٌ جدًا، وأنا أحبُّ لصوتك أن يتلو شعرًا أكثر، لأني أحبُّك كما أنت، كاتبي وشاعري، ثم هناك شيءٌ آخر، أنت لا تحفظ كلمات الأغنية جيدًا، لا يوجد في الأغنية شيءٌ اسمه سرقتُ الدار، الصواب هو " بأنيَّ من عينيكِ سرقت النار، وقُمت بأخطرِ ثوارتي، ثم ليس ذلك فحسب الترتيب الصحيح للمقطع أيَّتها الياقوتة والسلطانة والوردة والريحانة ليس كذلك بل أيَّتها الوردة والريحانة والياقوتة والسلطانة، ثمَّ أنا أعرف أني أجمل ملكة بين الملكات، أُريدك أن تقول لي غزلًا لم يقلْهُ أحدٌ لأحدٍ قبلي، فلا تقتبس ولا تعوِّل على نزار من اليوم..
لكنَّها محاولةٌ جيدةٌ منك، والأجمل ألا تكرِّرُها، لتبقى فريدةً مثل هذا اليوم!
كانت مريم تقول ذلك بأسلوب سلس، ويوسف يقف مذهولًا. أذهلتهُ قوَّة شخصيَّتِها، وشَعَرَ أنَّه في حضرة امرأةٍ مختلفةٍ، مستبدةٍ بعضَ الشيءِ، لكن أغلبَ المبدعين والفنانين يعشقون المرأة المستبدَّة، لديهم ميولٌ مازوخيَّة. الرجالُ المختلفين، يعشقون المرأة المختلفة، والمرأة المختلفة في المجتمع الشرقي، هي القويَّة، الناجحة، المستبدَّة.. يوسف في حضرة امرأةٍ من نوعٍ آخر، امرأةٍ شرقيَّةٍ من نوعٍ آخر، ببساطة تمرَّدت على كلِّ مفروضٍ، فهي من طلبت يده، وهي التي تمسك زِمام الأمور..
شعرت مريم وكأنَّها طِفلةٌ من جديد، كانت علاقة حبِّها مُرتبطة بالطفولة، وُلدَت إلى جانب روحها. لكنَّ فترات الفراقِ المتقطِّعة، جعلها تنمو كامرأةٍ، قلبُها مِلكُ يمينها..
اقتربت مريم من الشُبَّاك، وهي تُشير باصبع السبَّابة له بالاقتراب. تجمَّد، ولم يعرف كيف يتصرَّف، وجدَ نفسهُ مسحورًا كليًا، يقتربُ ببطءِ سلحفاةٍ من شفاهِا. أغمضت عينيها، واقتربت منه قليلًا، وأثناء ذلك فاجأتْهُ بنظرةٍ صوبَ عينيهِ مباشرة.. كانت نظرةً قويَّة، مُنعشة، فيها من الدلال ما يكفي لهزيمة قبيلةٍ من الرجال..
حركت أحداقَها صوبَ شفتَيه، ثمَّ اقتربت منه، وأَطبَقَت شفتيها على شفتيه بحنيَّةٍ وخِفَّةٍ ودلالٍ، وكأنَّها تُداعب كريمة الآيس كريم.. ببطءٍ شدَّت شَفَتَهُ العُليا قليلًا، ثمَّ تركتها فجأةً تعودُ لمَرساها، واعتقلت شفتاها شَفَتُه السُفلى. بدأت تُلامسها، تدلِّلُها، ثم تركته يتجرَّع الشَّهد من فمها، وابتعدت أخيرًا بعد أن تمكَّن الخجل منها..
غمزته، ثم أشارت بإصبعها مجدَّدًا مُحذِرةً إيَّاه:
- في المرةِ القادمة اقرأ أيَّ عقدٍ توقِّعُ عليه، في عقد زواجنا الذي وقَّعته، العصمة في يدي!
***