فندقٌ قريبٌ من المخيَّم، بعيدًا عن هواه المُثقلِ بالألم، يُطلُّ على شاطئ البحر، وعلى أهمِّ موانئ فلسطين التاريخيَّة..
ميناء غزَّة، المكان الأجمل في القطاع، عريقٌ، لم يغبْ عن نصوص التاريخ، كان محوريًّا في العالم القديم مُتربِّعًا على طُرق القوافل التجاريَّة، وقد اُكتُشِفَت فيه مؤخرًا مجموعةٌ من الأعمدةِ والتيجان الرخاميَّة، يعودُ تاريخها إلى الفترة الرومانيَّة زمنَ الإمبراطور قسطنطين، أي أنَّها تعود للعام 335 م..
يجلس رأفت والعقيد في مطعم الفندق، المفتوح على السماء وعلى البحر، الذي يحملُ بخفَّةٍ مراكب الصيد وبعض السُّفن التي لم تتحرَّك من مكانِها منذ سنين.. سُفنٌ يزيِّنُ جانبيها الصدأ، وقِصصٌ وأساطيرٌ ألِفَها وتآلَفَ معها أبناء المخيَّم، وروَّاد المقاهي البسيطة..
بوارجٌ اسرائيليَّة على بعدٍ لا يتجاوز بِضعَ مِئاتٍ من الأمتار، يتسلَّى الجنود على متنِها باقتناصِ الصيَّادين، إذا ما تجاوزوا رصيفَ البحر..
الميناءُ هو اختصارٌ لبقايا حياةٍ، بقايا حضارةٍ، بقايا تاريخٍ، ولطمةٌ على الخد!
خلع العقيدُ مِعطَفه، وأشعل السيجار، وبجانِبِه مدير مكتبه يُنهِي اتصالًا، ثم يلتفتُ إلى العقيد باهتمامٍ في السؤال، ولا مبالاة بالموضوع:
- ماذا حصل في لجنة التحقيقات؟، هل يحتاج الأمر لتدخل اللواء؟
- لا أبدًا، لقد أُغلِق التحقيق اليوم. أُريدك أن تُفرج عن مئةِ مُعتقلٍ سياسيٍ لا يُمثِّلون خطرًا على أمن الدولة، وأحضر لي تقريرًا بأسمائهم، وسأوقِّعُه لك غدًا.
- مئة معتقل؟ كثير جدًا، ما الهدف من ذلك؟
- مكرمةٌ من السيِّد الرئيس..
- ماذا عن يوسف، مريم جاءت لتَسأل عنه، ونفيت وجوده لدينا، وتحدَّثتُ معها عن بعض الشوائب العالقة في ذهنها، وأعتقد أنَّها بخيرٍ الآن.
- هل ما زالت متعلقةً به رغم كل ذلك؟ عليه اللعنة!..
- هو سوء تقديرٍ وقد تدبَّرتُ الأمر، لكنَّك لن تحدِّثَها عن هذا الموضوع، فلقد وعدتُها ألا أخبرك بشيء، إلى حين ألقاها مرة أخرى..
- لا تقلق، عقلي يكفيه ما فيه، تدبَّر أنت الموضوع.
- إنِّني أُفضِّل الإفراج عن يوسف، فهو مُحتَجَزٌ بلا تُهمة، ووجُودُه عندنا لن يستفزَّ أخاه في شيءٍ، فهما أشبه بالغرباء، وأنا سأتدبَّر خروجه بما يليق بك، وسأوضح له ملابسات الاحتجاز بما يتناسب مع الوضع الراهن.
- لم أفهمْك...
- سأُقنِعهُ بأنَّ احتجازَه كان على سبيل الخطأ، وأنَّك حين علمت بوجودهِ في المعتقل، ثار غضبك وأمرت بالافراج فورًا عنه، ومحاسبة المسؤلين عن ذلك.
جاء النادل ليُقاطِع حديثَهُما، سائلًا عمَّا يحلو لهما من قائمة الطعام، فأشار العقيد إلى رأفت لكي يُنجِز الطلب. أملى رأفت للنادل بالطلب، ثم عاد ليُكمِل الحديث مع العقيد:
- يُستحسَن أن نُفرِج عنه، فهو لا يمثِّل أيَّ خطرٍ، وسأخرجه في إطارٍ خارجٍ عن مكرمة الرئيس.
أومأ العقيد برأسه موافقًا، وعاد متأمِّلًا الميناء، ثم صار يحدِّث رأفت عن رغبته بشراء شقةٍ تُطلُّ على الميناء، حيث لا يستطيع العقيد نفسه أن يمتلك قطعةَ أرضٍ تطلُّ على الميناء بسبب غلائِها الفاحش، وعدم رغبةِ أيِّ ملَّاكٍ في بيع أرضه، كان قادرًا على شراء شقة، لكنَّه رُغم ثراءِه لا يستطيع أن يشتري أرضًا هناك..
حَضَرَت الأطباق، كلُّ ما على السفرةِ لا يُشبه طعام أهلِ المدينة، كانت خاليةً من الزيتون والزعتر، سُفرةٌ تشوِّهُ حُرمة المشهدِ البحريِّ العريق..
أفرج رأفت عن يوسف، بعد تمثيليَّةٍ هَزليَّة أعدَّها، وسَلَّةٍ من الاعتذارات الواهية.
أيُعقَل أنَّ رأفت يُصدِّق اقتناعي بوقاحة مشيِهِ في جنازة سجني؟ يسأل يوسف نفسه.
أخذ أَغراضه كاملةً، لم ينقُصها شيء، هاتفه، حُفنةُ نقودٍ، وساعةٌ فضيَّة. كان يمشى متردِّدًا أثناء خروجِه من بوَّابة السرايا، لا يُريد أن يصادف نَظَرَهَ عين أحد!
رغم كلِّ ذلك، كان سعيدًا جدًا، فقد ارتدى في السجن صوت مريم، وذكرى مريم، وروح مريم، ويدَ مريم.. وحدث ما لم يحدث له مِنذ نعومة أظافره، قُبلة، وكلمة، حتى زواج!. لا تنتابه الرغبة بأخذ أيِّ شيءٍ من ذكريات السِّجن، غير الساعات التي غيَّرت فيها مريم حياته..
خرج يوسف من السِّجن حيًا بإرادةٍ قويَّة، إرادة الحبِّ واستمرار الحياة. كلُّ شيءٍ محكومٌ بالضرورات، يتجاوز بألمٍ بعضًا من بعضِهِ، كي يواصلَ الوصولَ إلى الاستقرار. بدأ يتشافى من الظلم بمجرَّد خروجِه من السِّجن، وانخراطه في زُحام المدينة. الرسومات على الجُدران اختلفت، صارت تحمل أسماء شهداءٍ جُدد. دون ذلك كان الشارع كما هو، لم يتغيَّر منذ آخر مرةٍ رآه..
تمشَّى قليلًا في شارع الجندي المجهول، الموازي لسجن السرايا. كان يرى المكان بعينين مختلفتين، كأنَّهما عدستيِّ فنانٍ، هكذا هم عادةً المُحرَّرِين، يرون الحياة ملوَّنة خارج نطاق جدران السجن الرماديَّة البشعة..
يوسف لا أقارب له من الدرجة الأولى في غزة غير أخيه مصطفى، فعمُّه يقيم في عمَّان ويحمِل الجنسيَّة الأُردنية، وله خالٌ أيضًا في ألمانيا لا يعرف شيئًا عنه. لم يكن ينتظره أحدٌ حين خرج، ظلَّ يتمشَّى في حديقة الجنديِّ التي تفصل شارع باتجاهين.
تُعتَبر حديقة الجندي فِسحة لأهلِّ غزَّة، تقع في وسط القطاع. في أوَّلِها نُصُبٌ تذكاري بُني تخليدًا لذكرى جنديٍ مجهولٍ، ويقع مبنى المجلس التشريعيِّ الفلسطينيِّ في الجهة المقابلة له. أكمل طريقَه صوَب النُصب، ليستَريحَ على قاعدتِهِ الخَرسانية، التي ترتفع نحو مِترين عن مستوى الأرض، وليستظلَّ في الجِهة المُعاكسة للشمس تحت تمثال جنديٍ يرتدي بزَّتَه العسكريَّة، ويحملُ في يدهِ اليُمنى سلاحه، ويشير بسبابته للقدس.
كانت خارطة فلسطين محفورةً على الجانب الأوَّل من القاعدة الرخاميَّة التي تحمل التمثال، وأسفلها آيةٌ قرآنيَّة "و لا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون"، وفي الجانب الثاني كان علم فلسطين بألوانه الأربعة، محفورًا أسفله عبارة مكتوبٌ فيها "ليُنشَر بعد طيِّ ذلك العلم ولينتعش أملٌ يكبو به الألمُ إن شاء الله". أما الجانب الثالث، فقد خُطَّت عليه أبياتٌ من الشعر تقول:
للأوطان في دم كلِّ حرٍّ يدٌ سلفت ودينٌ مُستحق
وآخيرًا، في الجانب الرابع، والذي استوقف نظرَهُ، كانت خارطةٌ للوطن العربيِّ، مكتوبٌ أسفلها أبيات أُخرى للشاعر العربي الكبير أبي القاسم الشَّابي:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدر
ولا بدَّ للَّيل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
قرأ يوسف هذا السَطر بسخرية تنمُّ عن حرقةٍ، واتكأ على الجدار. أخرج شريحَتَهُ، ووضعها في الهاتف وأجرى اتّصالا إلى مريم..
على الجانب الآخر، شهقت مريم حين رأت على هاتفها رقم يوسف يتّصل، فتردّدت في الردِّ، لكنَّها لم تقوَ على الرفض، فشقَّت خندقُ صَدرِها وأجابت بتردّد..
- ألو
ثم صمتت. جاء صوت يوسف نقيًا، لا يخلو من كسرةٍ وشجن..
- كيفك يا إم ولادي، أنا صرت حر!
كان صوتُه ولفظُ "إم ولادي" له إيقاعٌ خاص عند مريم، أصابها بحالة قشعريرة تُسمّى باللغة الإنجليزية "Butterflies in the stomach"، وهي حالةٌ فريدةٌ من الإحساس البدنيِّ، تنشأُ نتيجة إطلاق سراح هرمونات الأدرينالين في الجسم، والتي تسبِّب زيادةً في معدَّل دقَّات القلب. وترتبط هذه الحالة بالنَّشوة والإثارة والحب، والتي لها صلةٌ وثيقة مع تماوج المشاعر في المعدة..
أيُّ حبٍّ هذا؟ إنَّه حصاد صمت سنين..
بعد مضيِّ ثلاثة أنفاسٍ وشهقةٌ خفيفةٌ، تكلَّمت مريم:
- صوتُكَ يفتح جنَّة في باطنِ الأرض، ذاكَ العالم السفليّ..
ابتسم يوسف وقال:
- كيف تكونين بهذا الذكاء حتّى في الغزل!
ردَّت مريم:
- المرأة القارئة يا طِفلي، المرأة القارئة، احذر أن تَضَع لها سقفًا من التوقعات، كي لا ينهار على رأسك!
كانت مريم تتنقَّلُ بين خجلِها وقوَّتِها، كنادلٍ متمرسٍ في أحضان بيتٍ ملكيٍّ، قمّةُ السلاسة والخفَّة والإقناع. طَرِبَ يوسف جدًا وهو يُحادِثُها، كأنَّه في حالة ثمالة، وكان المارة على الطريق يتراشقون بغرابةٍ النظر إليه. قال بحماسةٍ لها:
- أتعرفين ماذا استفدتُ من السِّجن غير الإفصاح عن كنز حُبِّي، وملامسةِ يديكِ، والارتباط للأبد بهما؟
قالت:
- القبلة!
قال:
- أريد مثلها ألفًا أو مليونًا لا فرق، لكن هناك أيضًا شيءٌ آخر.
قالت:
- ماذا استفدت يا بعلي!
قال وهو يضحك من اللفظ:
- بعلُكِ تعلَّم رقص التانجو جيدًا. كان لديَّ وقتٌ كبير لكي أتدرَّب عليه. كنتُ قد حَفظتُ الخطوات من قبل، لكنِّي خَلقتُ من صوتِ الريح وحفيف الأشجار، وضجيج الزحام وبعض مشاهد الذاكرة مسرحًا في سِجني. ثمان حركاتٍ أساسيَّة، " Basic Steps "، بالقدم اليمين خطوةٌ للخلف، وباليسار خطوةٌ جانبيَّة وباليمين خطوةٌ للأمام، ثمَّ بالقدم اليسار خطوةٌ للأمام، ومرةً أُخرى باليمين خطوةٌ، ثمَّ على اليسار نضعُها، وبالقدم اليسارِ خطوةٌ للأمام، ثمَّ خطوةٌ جانبيَّة بالقدم اليمين ثمَّ نرفع اليمين على رؤوس أصابِعِنا قليلًا، وأخيرًا نضع اليسار إلى اليمين..
ردَّت وهي تلتقِطُ أنفاسها:
- أُحبُّكَ، أنت تحفظُ الطريقة حرفيًا مِثلما أخبرتُك بالضبط، رُغم أن مرَّت سنون!
قالت ودموع عينيها على مشارِف الأحداق: "بحبك يا يوسف".
أخذ يوسف شهيقًا عاطفيًا، وأكمل حديثه:
- أتعرفين مقالةَ "صوتِكِ الأرجنتينيِّ" التي كتبتُها وأعطيتُك إيَّاها كي تصحِّحي أخطاءَها؟ كنتُ أتخيَّلُك أنتِ بطلتها، كنتُ أفكِّر بك كزوجةٍ منذ زمن، كي أكتفي بتبديل الهواء برذاذ عطرِكِ، كي أشعُرَ بوجودك وتُلهِمنِي هالَتُكِ. لديَّ الكثير أحدِّثُك عنه، كلُّ حرفٍ، كلُّ ايماءةٍ كلُّ حدثٍ في حياتي كان متعلِّقًا بك، كنت أُراقبك دائمًا، أحفظُ حتَّى طريقَتَكِ في وضع نظَّارتك الشمسيَّة..
أريد أن أعود إلى البيت الآن، كي أستحمَّ وأرتاح قليلًا، هل يمكنني أن أراكِ في المساء؟
ردَّت مريم: نعم، نعم في المساء مناسب، في مقرِّ جمعيَّتي، سأنتظرك. ارتحْ أنت الآن، وسأتَّصل مساءً بك.
ثم بشيءٍ خفيٍ من العاطفة والحبِّ والحنان قالت له: "دير بالك على نفسك"..
فردَّ بالمثل: "وإنتِ كمان، ديري بالك على نفسك".
***
داخلَ إحدى الشُقق التي عادةً ما يجتمع فيها أفراد التنظيم، في أحد المباني الذي يقع في الأحياء المُزدحمة، حتّى لا يثير ذلك أي انتباه، كان مصطفى وأبو صهيب في اجتماعٍ، يخطِّطون لاختطاف العقيد نبيل.
كان مصطفى باردًا جدًا في هذا الاجتماع، يتأمَّلُ فِكرهُ على قلقٍ، وكان رفيقُه أبو صهيب متحمسًا جدًا لفكرة الانتقام، كانت استهوته لدرجة الجنون، وكان يُغدِق الاقترحات والتحذيرات.
لقد جمع كلَّ المعلومات عن تحركات العقيد، وأفاد بأنَّه تحت حراسةٍ أمنيَّةٍ مشدَّدةٍ بشكلٍ دائم، وذلك بسبب ارتباطه بالعمل في الأجهزة الأمنيَّة والاستخباريَّة الحسَّاسة..
قاطعه مصطفى قائلًا: نبيل لديه قدرةٌ فائقة على التنقُّل دون برنامجٍ محدَّد، لا يسلكُ الطريق نفسه إلى العمل، لذلك يجب أن يُستَثنَى تنفيذُ العمليَّة في أوقات عمله كليًا.
كان في الاجتماع أيضًا قائد خليَّةٍ في التنظيم، فتدخَّل وأردف قائلًا:
في المساء يسهر العقيد لساعاتٍ متأخِّرةٍ في أكثر من مكان، ويصعب توَّقع تواجُدَه في تلك الساعات، وفي فترة الظهيرة يتواجد في عمله وتصاحبه حراسةٌ أمنيَّةٌ مشدَّدة، ومن المستحيل الدخول في اشتباكٍ مسلَّحٍ، فقد يؤدِّي ذلك إلى مقتل عددٍ كبيرٍ من الطرفين. لذلك، أرى أنَّ أنسب وقتٍ هو في الصباح، حين تأتي سيَّارته لتقلَّه ولا يكون معه إلا حارسٌ شخصيٌ واحد.
قال مصطفى: نعم أعتقد أنَّ هذا الوقتَ الأنسبُ. في الصباح تكون الطرقات خالية، فنستطيع التحرُّك سريعًا في الشوارع والانسحاب.
قال أبو صهيب: لقد رسمت خِطَّة هروب سيارتنا من طرقاتٍ خلفيَّةٍ، تكون عادةً خالية حتّى في ساعات الزُحام، وبعيدًا عن أعين كاميرات المُراقبة المعلَّقة على أعمدة الإنارة.
سأل قائد الخلية: في حال حدث ما لا يُحمَدُ عُقباه، وتمَّ تَبادلٌ لإطلاق النار، وتصرَّف العقيد وحارِسُه بحماقةٍ؛ فما الحل؟
ردَّ أبو صهيب متسرِّعًا: نُبادِلهُ إطلاق النار ونقتلُه طبعًا.
نظر مصطفى إليه بشيءٍ من الذهول.. أربكتْهُ البساطة التي يتكلَّمُ بها أبو صهيب عن القتل، فهو في العادة يميل للعمل السياسيِّ التنظيميِّ أكثر من العسكري، لكنَّ الاعتداءت الأخيرة أَجبرته للانخراط في هذا المُستنقع..
صمت قليلًا مُفكرًا، ثم أومأ برأسه موافقًا.
ابتسم أبو صهيب وقال: عند صباحِ بعد غدٍ، تحينُ ساعة الصفر.
ثم سمَّى أبو صهيب ثلاثة أفرادٍ، تترواح أعمارُهم بين الـ 15 سنة والـ 17 سنة للصعود على أعمدة الكهرباء قبل نِصفِ ساعة من تنفيذ العمليَّة، لتعطيل عمل كاميرات المُراقبة، وهم يرتدون أقنعةً تُخفي وجوهم، وقال إنهم أفضل ثلاثة أشخاصٍ ممكنٌ أن يقوموا بهذه الخُطوة، نظرًا لمهاراتهم العالية في القفز والتسلُّق على المباني والجدران، فلقد كانوا قبل انضمامهم للتنظيم في فريق باركور. والباركور هي مجموعةٌ من حركاتٍ رياضيَّةٍ، تتمثلُ في الانتقال من نقطةٍ إلى نقطة، بأكبر قدرٍ من السُرعة، باستخدام القُدُرات البدنيَّة العالية، وتَخَطْي بسلاسةٍ العقبات والموانع أيًا كانت، سواء من الصخور أو فروع الأشجار أو قُضبانٍ حديديَّة..
وافق الجميع، ثم خرج أبو صهيب مسرعًا لكي يستعد للعمليَّة، وظلَّ مصطفى جالسًا على الكرسيِّ المُتحرك في غرفة الاجتماع ومعه قائد الخليَّة.
سأله قائد الخليَّة عن شرده، فنفى أن يكون ذلك متعلقًا بالعمليَّة وتحجَّج بأخيه قائلًا:
أحاول الاتِّصال به منذ ثلاثة أيام وهاتِفُه مُغلق، وحاولت زيارَته في البيت ولم يكن هناك..
فردَّ عليه القائد: إذا أردت أستطيع تكليف أشخاصٍ بمراقبته.
فرفع مصطفى يديه نافيًا: لا داعي، سأنظُر في أمره بعد تنفيذ العمليَّة، الآن تستطيعُ الذهاب.
سلَّم عليه القائد وخرج هو أيضًا، وبقي مصطفى لوحدِه. كانت في قلبه بذرةُ خوفٍ بدأت تنمو أكثر.. صار يحدِّث نفسهُ: يجب أن أمضي قدمًا، فمنذ متى يمنعني الخوف، أيًا كانت النتيجة، بمشاركتي أو بغيرها ستنفَّذ العمليَّة.
ثم فرش سجَّادة الصلاةِ، ودعا أن تنجح هذه العمليَّة دون أن يضطروا لإطلاق النار وقتلِ أيِّ أحد، ثم صلى مرةً أُخرى صلاة استخارة، عسى أن تُهَدِّئ من روعِه ويَستَكنُّ قلبُه. وبعد أن أنهى صلاة الاستخارة، شعر بانقباض قلبِه أكثر، لكنَّه تجاهل ذلك وقال: لا مجال للتراجع، سنواجه بشجاعةٍ الآثار المُترتِّبة على هذه العملية أيًا كانت..
***
أجواءٌ مشحونةٌ بالحذر الأُسريِّ، مثل قُنبلة صوتٍ على حافة الانفجار.. في غرفة الصَّالة تجلس مريم وعمُّها نبيل يشاهدان التلفاز، يحاولان النظر إلى بعضِها بعفويَّة، لكنَّهما يخشيان تقاطع الأحداق، كي لا تتكشَّف ملامح الحديث.
كان العقيد متلهِّفًا لسماع أيِّ حديثٍ بخصوص الأمور الشخصيَّةِ لمريم، التي لا تُفصِحُ له أبدًا عنها. فكَّر قليلًا وقال حان الوقت لمُفاتَحتِها بهذا الموضوع. فرك راحة يديه، ثم مسح بهما بلطف ذقنه، وأخرج علبة السجائر وأخذ منها واحدة، وأمسكها بقبضةِ يده لتَستَقِرَّ داخل راحةِ يده. كانت هذه طريقتُه ليبدو قويًا في الحوار، ولتُساعِدَه في التغلُّب على قلقِه.
تنبَّهت مريم لذلك بِفِطرَتِها، وشعرت أنَّ لديه شيئًا يريد أن يُفاتحها به. كان نبيل يُحاول أن يبدو كتومًا.. حدَّقت في عينيه بغرابةٍ، ثمَّ حوَّلت نظرَها للتلفاز..
كَسَرَ عمُّها ذلك الصَّمتَ الصَّاخب وسألَها: ألَّا تُفكِّرين بالزَّواج؟
قبْلَ يوسف كانت فِكرة الزَّواج لدى مريم مُختلفة عن أيِّ فتاة! كانت تُثير سخريتها، وتُخيفُها فكرة الارتباط والأمومة ورعاية الأطفال، وكانت تشعر بانزعاجٍ شديدٍ إذا ما حضرت فرحَ إحدى صديقاتها أو أقاربها، أو إن مازحها أحدٌ بقوله (عقبال ما نشوفك عروسة ونفرح بيكي)!
عادةً هي لا تجلس مع سيدات العائلة، حتَّى لا يُفاتِحنَها بموضوع الزواج، وكي تتجنَّب حواراتٍ عقيمةٍ. لا تريد أن تسمع أيَّ عروضٍ للزواج، سواء كان الزَّوجُ صالحًا أو طالحًا، متعلمًا أو جاهلًا، غنيًا أو فقيرا. الفكرةُ بحدِّ ذاتها مرفوضةٌ. كانت حينها سيدةً عمليَّةً برغماتيَّةً من الطراز الأول.. كانت بصراحة ترى الزَّواج التقليديَّ رغبةً حيوانيَّةً بحتة، وحاجةً تُمارَسُ من خلالِها المرأة حريَّتها بقليلٍ من الاستقلاليَّة، وفي أفضل الأحوال كانت تنظُرُ للزَّواج على أنَّه طريقةٌ ليكسُرَ الوحيدون عِزلتَهم، ولتَرْضَى عنهم نفوسُهم..
لكن ما إن أعادت آلة الزمن حبَّها، الذي مضى بِصَمْتٍ وعاد بقوَّةٍ، حتَّى صارت تُريد هذا الحُلم، الذي طالما تجنَّبت سماع حديث صديقاتها عنه. صَبْرُ يوسف الأيُّوبيِّ لسنين على رَفضِها اللامباشر له، وشيءٌ من هوسِهِ بالأشياءِ التي تَعشَقُها، ومن حسِّهِ المُرهَف والسَّاخر في آن واحد.. تَدويناته الفكريَّة التي تسبحُ في عقلها بتألُّقٍ، شُعورها اللامع بوجودِها في كلِّ سطرٍ يكتُبُه، وكلِّ لون في ثيابه يَلبسُه، ومديح النساء لذوقه.. كلُّ هذا كان سببًا عظيمًا لأن يجعلَها مدام يوسف!
تسألُ نفسها: هل يُراوغني ليعرفَ شيئًا؟ هل علِم بزواجي من يوسف؟ سألت مريم نفسها وظلَّت صامتة، حتَّى أنَّها لم تحوِّل إليه نظرَها.. تظاهرت باللامبالاة..
كرَّر العقيد سُؤاله: إلى متى ستبقين متجاهلةً الحديث عن الزواج؟
بهدوءٍ يُغلِّف عاصفة أجابت: حين أنتهي من الماجستير..، وحتَّى ذلك الوقت لا أُريد مناقشة الموضوع إطلاقًا مع أحد.
باغتها بسؤالٍ كان الأكثرَ استفزازًا بالنسبة لها: هل ما زلتِ تُريدين يوسف الفلاح؟
تمالكت أعصابها، وقد استهلكت في ذلك أكثر من ثلثيِّ طاقتها وقالت: لا يوسف ولا أحد!
أردف محاولًا إقناعها: أُريد أن أطمئنَّ على مستقبلكِ، إذا عشتُ الآن لأجلِك، لا أعرف أين غدًا سأعيش.
كان يُحاول أن يثير عُواطفها بالإشارة إلى اقتراب أَجلِه، كونَهُ مريضٌ بثقبٍ في القلب. وحينما لم يُجدِ ذلك نفعًا استطرد حديثه:
- أريد أن أكمِلَ وصيَّة والدتك، وأنا لا أضمن عُمري بعد اليوم، ألا تريدين أن ترتاح أمُّك في قبرها؟
ردَّت بعصبيَّة: من فضلك، توقف عن استخدام صيت أمِّي لإقناعي بأمر محسوم. لو كانت أمِّي على قيد الحياة، لما طلبت منِّي نصف الطلبات التي تطلِبُها أنتَ مني على حسِّها. تسجيل عقارات باسمي كي تحفظ مُستقبلي كما وصَّتك أمِّي، نقلُ أملاكٍ، توقيعٌ على أوراقٍ لا أقرؤها، وكلُّ هذا كي تحفظ مستقبلي كما وصَّتك أمي. لو كانت تعرف أنَّك ستعتَقلُني باسم وصيَّتها، لما وصَّتك بشيء. ألا يكفيك كلُّ ذلك؟! لو سمحت لا تتدخل في هذه المسألة على الإطلاق، الزواج قضيَّةٌ تخصُّني بكامل حذافيرها، فكفَّ عن ذلك.
أثار ذلك الردُّ عصبيَّة نبيل، خصوصًا إشارتها لموضوع العقارات، والتي يستغلُّ قربها منهُ ليسجِّل أملاكًا باسمها، ذلك لتهرُّبه من القانون ومن سؤال "من أين لك هذا؟"
حاول تهدئة أعصابِها بسردِ فضائله عليها في تربيتها، وتعليمها، وجعلِها أكثر من ابنته، فقاطعته حين بدأ الحديث بهذه الطريقة قائلة: لأجلِ هذا كلِّه أنا أرجوك ألا تتدخل في مسألة زواجي!
قال لها: أعدُك بذلك لكن هناك عريسًا يريد خِطبَتَك، فقط أعطي نفسك فُرصةً للقائه، وإذا لم يُعجبْك الأمر، كأنَّ شيئًا لم يكن. الرجلُ من عائلةٍ مدنيَّةٍ مرموقة ومُحترمة، ومن مستوى اجتماعي جيد جدًا، شخصٌ مقتدر، عمره ثلاثون سنةً، أي أنَّ سنَّهُ مناسبٌ جدًا لك، سيتخرَّج هذه السنة بدبلوم في التجارة..
عائلتُه من ملَّاك الأراضي والعقارات، ولديهم عدَّةَ شركات ناجحة على مستوى قطاع غزَّة. لقد قابلتُه، وأراه مناسبًا لك، وكذلك زوجة عمِّك توافقُني الرأي، فقط قابليه، أعطِه فرصة.
كان باقي على موعدها مع يوسف ساعتين. شعرت أنَّها فُرصتها كي تختلق سببًا للخروج، لتفرِّغ عن نفسها بعد ضيقِها من هذا الحديث. لم يكن صعبًا عليها أن تذرف دموعًا، الكلُّ يشهد ببراعتها في التمثيل، ولم يكن هذا الحوار يُثير شهيَّتها على الحزن، بسبب حالة البلادة التي اكتسبتْها من خلال الحوارات العقيمة التي يفتحُها معها عمَّها مِرارًا. طوال حياتهم لم تكن هناك وسيلة تواصلٍ جيِّدة بين مريم وعمها، كانت مقبولة، لكنَّها لم تكن ممتازةً كما مع رأفت مدير مكتبه، والذي كان يطلب عادةً منه التَّدخُل حين تسوء الأمور بينهما. أرادت أن تستغلَّ هذا الحوار للخروج، فصارت تشحن الأجواء أكثر، تصرَّفت بلامبالاةٍ مُطلَقَة أثناء حديثه عن العريس، وما إن انتهى من ذلك حتى قالت ببرود:
- أنت تريد أن تعقد صفقةً على حساب حياتي، هل تظنَّني عقارًا تريد المضاربة عليه؟، أنا لن أتزوج أيَّ جحشٍ، حتى لو ابن الرئيس..
ثمَّ أجهشت بالبكاء، وعلى إثرِ ذلك خرجت زوجة عمِّها من غرفتها، وأخذتها لتجلِسها عندها وهي تحاول تهدئتَها، وقالت لها: لا تقلقي، لن يفتح معك الموضوع بعد الآن.
ظلَّت تُحاول طمأنتها، إلى أن اقترحت عليها الخروج إلى الهواء لتهرُب من هذا الجوِّ المشحون.
ما أجمله من اقتراح،هذا كلُّ ما كانت مريم تريده!
***
عند الساعة الثامنة مساءً، وبعد أن استطاعت أن تخرج بمصلحةٍ من نقاشها الحاد مع عمِّها، وصلت مريم مقرَّ جمعيَّتها متحمِّسةً، وتُشغِل الساعة تفكيرها. كانت تعلم حقيقة عناد الوقت، حاولت أن تستجمع أنفاسها لاهِثةً للقاء يوسف، بعد أن تاب الغياب عن الغياب.
ثم على خُطى مارلين مونرو، السيدة المثيرة التي يصل معدَّلُ ذكائها 167 IQ، متفوِّقةً بذلك على رئيس الولايات المتحدة الخامس جون كيندي والعالم الفيزيائي ألبرت أنشتاين، قرَّرت مريم أن تجمع ثلاث صفات لا تجتمع إلا بسيدات الصف الأول: الذكاء، الجمال، الإغراء. كانت تمتلك مسبقًا بفِطرتِها الجمال والذكاء، لكن هي الآن بحاجة إلى الثالوث المحرم، الإغراء!
التبرُّج في أحسن الحالات يعني الـمهمَّة الصعبة بالنسبة لمريم، ماذا لو انحصرت خياراتها بالوقوف أمام مرآةٍ عتيقة معلَّقة في مطبخ الجمعية؟
لم يتناسب مستوى المرآة مع طول مريم بالشكل المطلوب، لكنَّ حذاءها الأحمر ذا الكعب العالي "الهاي هيل" أسعف الموقف، وقفت مريم أمام المرآة، و١٢ سانتي متر تفصل أقدامَها عن الأرض، انشغلت بالمشي قليلًا محاولةً أن تُخضِع نفسها للتجربة أمام خيالٍ يأخذها إلى الموقف..
… تتخيَّل أن يوسف يجلس هناك أمامها مستندًا على حافة الباب، وهي تتقدّم بمشيٍ متقصع، بحيث تضعُ قدمَها أمام القدم الأُخرى بشكلٍ مستقيم، وعلى استقامتها تمامًا ورنَّةُ خِلخَالها تفتن حواس يوسف. هكذا تكون مريم قد تدرَّبت على المشي قبل أن يبدأ العرض الحقيقي.
تعود مريم إلى الوقوف أمام المرآة، مُمسكةً بيدها فاونديشن جورجيو أرماني، غالبًا ما تنتهي من هذا الجزء بسهولة.
تتمالك نفسَها محاولةً ألا تتوتر، فقد حان وضع الميك آب، بالرغم من كون علبة الفور ايڤر خاصتها ماركة عالمية، إلا أن العمليَّة توتِّرُها. كانت مقتنعة أن التبرُّج شيءٌ صعب، واختيار الألوان في المناسبات المهمّة، مع الأخذ بعين الاعتبار لون البشرة والملابس والتوازن والتناسق.. إنَّها تفاصيل مُرهِقة نفسيًا للأنثى! كما أنَّ هناك صورة نهائيّة تتوقعها كلُّ أُنثى لنفسها، قبل البدء بأيِّ تصرفٍ يخصُّ مظهرها، هذه الصورة تُلزمها أن تقوم بما يجعلها طِبقَ الأصل لها، وأي اختلاف عنها يعني أنَّ هناك خللًا.
تتابع وضع كحل شانيل بارتباك، خشيَّة أن تسيل دمعتها لتستفزَّها وتعكِّر تبرُّجها؛ لكن كلَّ شيءٍ لا يزال تحت السيطرة. تمسك بمشط ايزادورا لتمرِّره فوق سواد رموشها بحذر، تتوقَّف قليلًا لتتأمَّل نفسها، كما تفعل قبل وبعد كل تصرُّفٍ.. ترسم قليلًا من الآي لاينر بطريقةٍ نمريَّة، لكن هذا يكلِّفُها كثيرًا من الوقت القليل. تكرِّر العملية لأكثر من مرة، حتى تتم بنجاح. أوشكت مريم على الانتهاء من المهمة الصعبة، قليلًا من أحمر بودرة الخدود، وكثيرًا من روج جيفنشي الأحمر سيَفِي بتفصيلة إغراء.
كان عطر مريم يَلتهِم أكسجين الغرفة ليحتلَّ الفراغ بكثافةٍ. لم تكن خياراتها مَحضَ صدفة.. لا بدَّ من سهم إغراءٍ في كلِّ تفصيلٍ، ليُصيبَ كلَّ حاسةٍ عند يوسف. ساقا الزُبدَةِ تخرُجان من شقِّي شورتها الـ "لو ويست جينز"، والسُرَّة أسفلَها جزءٌ موشومٌ بالحنَّة، والنهدان بلا تعليق يهتزَّان بكلِّ خُطوة تحت كَت الموسلين والساتان الأبيض، ونَحرُها المعتوقُ بسلسلةٍ تحمل لؤلؤةً تتوهَّج، والأكتاف يركبُها موجٌ أسودٌ تنثُرُه مريم متعمِّدةً إغراق يوسف، تُشعلُ فيه نار الرغبة والقُبُلات على شفة تلهَث أتعَبَها الحِرمان.
تدقُّ السَّاعة، ليتحوَّل خيال مريم إلى واقعٍ.. تحت سقف الجمعيَّة يختلِيان.
صار يوسف أمام مريم، بعدما استطاع مراوغة أولئك الذين انتدبهم رأفت لمراقبته. كانت مريم تختبئ بخجلٍ قويٍ خلف الباب، بعدما فتحت له باب الجمعيَّة..
تقدم يوسف إلى الداخل مترًا ونصف داخل شقة الجمعيّة، أغلقت مريم باب الجمعيّة بالترباس، وتأكَّدت من ثلاث تكَّات بالمُفتاح.
استدار يوسف، ليرى مريم تبتسم بخجل، تُقاوم النَّظر في عينيه. ظلَّ يوسف صامتًا مرتبكًا، مذهولًا أمام هذا الجبروت. جبروت المرأة الذي هزم الرئيس الأمريكيَّ بيل كلينتون أمام مونيكا لوينسكي، وأوقع العداوة على يديِّ كليوبترا بين أوكتافيوس وأنطونيو، أعزِّ صديقين..
لكن مع مريم، تأخذ الأساطير منحنًى آخر، فجمالها الأخَّاذ يبني لا يهدم، فقد نما فلسطينيًّا كشجرة الزيتون، وارتوى بالبرتقال وانتشى بالزعتر والنعناع، وتألَّق في حضور الزنجبيل والقُرنفُل، وتزيَّن بفطرةِ الياسمين الدمشقي..
ظل يوسف واقفًا لا يُبادر بشيءٍ.. كان أقرب وصفٍ لحالته آنذاك بالأبله!
نعم، في الحقيقة يفقُد الرجل نِصف عقلِه أمام امرأةٍ جميلة، فماذا سيَفقد يوسف أمام امرأة يحلم بها منذ أكثر من عشرين عامًا، والآن هي أمامه في أوج تبرُّجها؟
يعيش هذه الثواني صراعًا، يرجو عقلُه بأن يعود، يكاد قلبُه يتوسَّل عقله أن يعود قليلًا، وما إن أشفق عقله عليه، حتى عاد جزئيًا لإدراكه، فتذكَّر على إثر ذلك أحد دروس الكاما سوطرا..
من وحي هذا الدرس، صارت كلُّ خلايا جسده تشجِّعُه وتقول: اذهب احتضنها، احتضنها الآن ولا شيء، إنَّه الحب، احتضنها واعتصر أضلاعها، إنَّه الحب، حافَظَ على أناقته، واحتضنها..
لم يُجفِل خَجَلَها، تقدَّم إليها واحتواها، كان الشعور بالأمان متبادلًا، صارت الراحة تتخلَّل إلى أعماق نفسه بشكلٍ سحري، لا يفهمه إلا العشاق من الدرجة الأولى.
قالت مريم بهمسٍ، ويداها تُحسِّس ظهره وأضلاعه، وتجذبها بشدةٍ إلى أحضانها، كشعور العثور بعد الفقد: أنا أحبُّك، أرجوك لا تتخلَ عني مهما حصل..
فرد عليها بلهجةٍ تتخلَّلها هالة من الجدِّ والمُزاح والأمان: أتخلَّى عنك! قضيت عمري أنتظر هذه اللحظة. سأتخلَّى عنك إذا تخلَّت الشمس عن شروقها، وتخلَّى القمر عن نوره المُستمدِّ من أخوته النجوم..
كانت مقطوعة تانجو فلامنكو للفنان أرميك تنتشرُ بهدوءٍ في أرجاء المكان، وتُهدي السكينة للقلوب، وتغذِّي الأرواح بالحريَّة والحبِّ والجنون..
ومع الإيقاع، تشابكت أيدي يوسف ومريم سويًا بسلاسةٍ، بعد الحضن الذي أعاد الخجل للجلوس في صفوف المتفرجين.
لحسن حظِّهما، وكمكرمةٍ من القدر، كانت صالة الجمعية فارغة من الأثاث لأغراض التجديد. أخذ يوسف بيدِ مريم، وصعد بها بهدوءٍ بشكل موازٍ لنظراتهما من الأسفل إلى الأعلى، وما أن التقت عيناهما صوب بعض، حتى ترك يديها ويديه تتنفَّسان حُريَّة المكان. اقترب منها حدَّ القبلة، استنشق هواء أنفاسِها.. فجُنَّ جُنونه. تقدَّم بها إلى الرقص، مع اشتداد إيقاع الموسيقى. وحين صار في وسط الصالة، حملها وطار بها، كانت اللَّحظة الأكثر جنونًا..
ثمَّ صارا يخطوان مع الموسيقى خطوةً بخطوة، ونظرةً بنظره، وحركةً بحركة.. كانت مريم تلتفُّ برشاقةٍ حين يُبعدها عن حُضنه وهو لا يزال ممسكًا بيديها، من ثمَّ تعود مرَّةً أُخرى لحُضنه بأنفاسٍ أشدَّ إثارة..
تلاصق جسدُها بجسده، في لحظة كانت تستند فيها بظهرها على صدره، واضعةً يدها خلف رأسه، تلامس أصابعُها شعرَه.. كانت يداه تتشبَّثُ بخصرِها، بعاطفةٍ لا مثيل لها..
أمسك بيدها وبخصرها، واستدار حولها لتتلاقى عيناهما من جديد. نظر إليها بجُرأةٍ، وأعاد على شفتيها أمجاد قُبلتهما الأولى في السجن، يوم زواجِهما هناك.
بدأت شهوته بالتمرُّد على السِّير الطَّردي مع الحبّ، سارت تتقدَّم أسرع مما ينبغي، وصارت أيدي يوسف تتحسَّس نهديَّ مريم، فتمرَّد الخوف عند مريم على النقيض، وصار أسرع تقدمًا من الحب..
فتلعثمت بخوفٍ قائلة: أرجوك، ليس الآن، إلى أن نستقر في بيتٍ واحد.. لا أريد أن أعيش هذه التجربة الفريدة كسرقةِ اللصوص..
استمع لكلماتها بحرصٍ شديد.. لم يستغرق الأمر سوى ثوانٍ، تصرَّف على النحو الصحيح، حضنها وطبع قُبلة على جبينها، وأخذ بيديها لكي يجلسا للحديث سويًا في مكتبها.
أثناء سيرهما في الرواق توقَّفت مريم وقالت له: لا أريد الجلوس على المكتب، سأجلس كما تفعل أنت، هناك في المطبخ سجادة صغيرة، سنفرشها على الأرض ونجلس. أريد أن أحبك يا فلاحي العبقري.
ابتسم قليلًا وقال: هذا الفلاح يعمل على تحضير ماجستير في الهندسة الإلكترونيَّة.
وقال على سبيل المزاح: كفاك عُنصريَّة.
وذهب ليُحضرَها، فأمسكت يديه قبل أن يذهب، وقبَّلتها وقالت: أنا آسفة.
عاد، وجلسا يتبادلان الحديث، يعيدان تفاصيل الماضي بتعويذات الذاكرة، يبرِّر لها حينما فعل ذلك ما كان قصده..، فتبرِّر له قسوة ردودها..
مرَّت ساعة على هذا الحديث، ليتَّفقا أخيرًا على أن تنتقل للإقامة في مصر بعد غدٍ، بما أنَّ عمَّها قد أنجز لها معاملة الفيزا مسبقًا، وهو سيقوم بعرض بيته للبيع أولًا، ثم سيُنهي جميع أموره، وسيلحقُها في غضون أُسبوعين على الأكثر. وسيصطحبُها بنفسه بعد غدٍ إلى معبر رفح.
***
تذهلني تفاصيل قصتنا الأسطوريَّة لزمنٍ سيحين. يومًا ما سنحكيها ولن يصدِّق حقيقة أمرنا أحد. سنكون شيئًا خرافيًا لأجيال ذاك الزمان. أتَذْكُر ألوان ملابسنا الموّحدة، حتَّى أننا كنَّا نضرُب في عرض الحائط الزيَّ الرسميَّ التي تفرُضُه مدارس الوكالة علينا؟ كنت أحبُّ هذا التمرُّد القليل، وأحبُّ فكرة الألوان هذه، كيف لهذا القدر أن يهدينا مصادفةَ الألوانِ بهذا الكمِّ من الجمال!
أتوق إلى حبِّك، إلى حميميَّة العواطف وعواصفها، أُدرك أني أحبُّك حتى الرمق الأخير من الشَّبق، لكن ممنوعًا علينا أن نعترف بهذا الشَّغف الفِطري. كانت كثرة الممنوع تُضفِي حماسة لهيب قلبي، أما رزانة موقفي كانت تمنعني من أيِّ مُغامرة، كنتُ عدوَّةً لا مباشرةً للحبِّ من خلال عملي، لكن ليس هذا النوع من الحبّ، بل عدوَّةً للخضوع والخنوع الذي يفرِضُه الشرقيُّ عادةً على قصص حبِّنا..
"كن صديقي... كن صديقي... كن صديقي
ليس في الأمر انتقاصًا للرجولة
غير أن الشرقيَّ...
لا يرضى بدورٍ غير أدوار البطولة"
كانت أُغنية ماجدة الرومي مدرسةً في الحبِّ، مدرسةٌ علَّمتني أن أحبَّك بهذا الشكل الأسطوريِّ الأنيق، وجعلت من قصة حبِّي، قصةً متعافيَّةً من كلِّ شوائب الشرقيَّة..
هذا اليوم كان رائعًا وباذخ الجمال حدَّ الترف!
كأن ستائر السماء انشقَّت على مسرح حياتي، وجِئتَني على صهوة الخيل من هُناك تغازل همس قلبي، وتُعلِّمني كيف يُحلِّق سحاب الحبِّ ويُمطر فرحًا بلا أوجاع..
كانت تحزم أمتعتَها، ولسانُ حديثِ ذهنِها نثرٌ وشِعرٌ وسَردُ ملاحمٍ عشقيَّة.. تستعدُّ للسفر سرًا في الصباح الباكر إلى مصر، إلى بلادٍ تخطف الأنفاس، إلى بلاد الشُّعراء والعلماء والفنَّانين وصُنَّاع الزمن الجميل.. إلى النيل والأساطير على جانبيه، إلى صوت السيَّدة أمُّ كُلثوم، والعملاق سيِّد درويش مجدِّد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقيَّة في مصر، بل الوطن العربي..
"مصر يا أم العجايب شعبك أصيل والخصم عايب خلي بالك من الحبايب دولا أصحاب القضيَّة"
انتهت من حزم أمتعتِها دون أن تُلفت انتباه زوجة عمِّها، وسألت البواب أن يضعَها في السيَّارة، على أنَّها أشياءٌ لا حاجة لها بها، وستتبرَّع بها غدًا للمحتاجين الذين يسألون كثيرًا جمعيَّتها طلبًا للصدقات.
عزمت على الرحيل من سطوة المُجتمع والأهل، لتبدأ حياةً جديدةً في مصر، ثم راحت إلى غرفتها تُصارع الانتظار والوقت، مهووسةٌ بالأحلام والذكريات الجميلة، تستذكر ما لم تتوقع أن تتذكَّره من أيام طفولتهما.. تارةً تخطِّط في المستقبل، وتارةً تلتفت لأشياءٍ من الماضي كانت لم تُثرها وقتها.
يوسف أتذْكُر ذاك اليوم خلال أولِّ أسبوعٍ دراسي؟، كان لديَّ مراجعةٌ طبيَّة بعد انتهاء الدوام، كانت سيَّارتي متعطِّلة عند الميكانيكي، فاستقلَّيت سيَّارة أُجرة لأتفاجأ بكَ في المقعد الأماميِّ بالقرب من السائق.. لا أعلم كيف تجرَّأت وسألتني: "لوين؟".. ولا أُدرك حقيقة ما جعلني أُجيب على السؤال دون تردُّد، وبملامحي العنيدة: مراجعة طبيّة، في مانع؟
وكانت هذه أوفرُّ اللحظات حظًا لي لأتأمَّلك بدقةٍ وحذرٍ، دون أن ينالني انتباهك متلبِّسةً بالجرم. وقد أذهلتني حينما صفَّفت شعرك بكلتي كفَّيك وأصابعك متفرِّقة.. فعلتَ ذلك مرارًا، وكنتَ تجذبُني في كلِّ مرةٍ وبِـشغفٍ، لأكتشف مؤخرًا أنَّها ردة فعلك حينما تشعر بالخجل!
رائحة فساد عمِّي نبيل كانت قد أوشكت على الانتشار، فالتراكمات تُزيد الطين بلةً، هذا ما حفَّزه على إطلاق سراحك. كان بحاجةٍ لقليل من الخير ليحافظ على شيءٍ من ماء وجهه الذي أوشك على النضوب مقابل الكثير من الشرور التي أشُّك أنَّ لديه صِلةً بها. لا أدري، لم أكن أهتمُّ بأعماله، كنت أذهب لمكتبه لبضع توقيعاتٍ يحتاجها مني في شئون العقارات التي يملكها، والتي يسجل أكثر من نصفها باسمي.
لا أدري، ولا يهمُّني ولا يعنيني، أنا الآن معك من جديد.
تفحَّصت جسدها من الرأس حتى القدمين، وتحسَّست مكان القُبلات.. وحدَّثت مرآتها قائلة: اشتقت إليكَ أسرع ممَّا توقعت!
اختارت مريم أن تجمع بقايا حياتها، وأحلامها، وآلالمها المبعثرة من جديد، وأخذت على عاتِقها المُغامرة. كان لديها الإرادة، وكأنَّها طفلٌ لا يكفُّ عن الألم والبكاء حتى يصل لمبتغاه..
لقد انتظر قلبُها بما فيه الكفاية، ومنذ غدٍ سيبدأ موسم الحصاد..
ذهبت مريم متأخِّرةً إلى النوم، كان النظر إلى الساعة يطرد هالات النوم من عينيها، لكنَّها في النهاية كتبت رسالةً إلى عمِّها، وضعتها على المكتب، ثم خلدت للنوم.
***
في الصباح، يوسف يوصل مريم لمعبر رفح
عند الصباح، استفاق النهار على حفيفِ الوداع..
بدأ حُلم يوسف ومريم يَنثِر بذوره على الأرض، تحت وقع السماء اللازورديَّة، على أمل أن يكون الحصاد كأهداب الغيوم فوضويًّا حرًا، جميلًا، أو كنجمةٍ مضيئةٍ في وسط ضباب الليل المُظلم.
كان يوسف لا يزال ينتظرها داخل سيَّارةٍ استأجرَها عند مُفترق أنصار في وسط القطاع، كي يوصلَها إلى معبر رفح. وصوت فيروز حاضرٌ معهما، الصوت الوحيد الذي لم يتخلَ عنهما، يرافُقهما منذ الصغر، بهالتِه الملائكيَّة، وتلك الكلمات الرحبانيَّة التي تُداعب إحساسهما، كصبيَّةٍ تُلامس بيديها خدَّ حبيبِها لتعصُف قلبه..
في غزَّة، تبثُّ كلُّ محطات الإذاعة في الصباح أغانٍ لفيروز، والقنوات الدينيَّة أو التابعة للتنظيمات، تَستفتح يومها بآياتٍ من القرآن الكريم.
لم تكن مصادفةً سماعُ صوت فيروز من راديو السيَّارة، لكنَّ المفارقة كانت في الأغنية التي داهمت قلوبَهم، وعلى أثرها صارت أحداقُهم تغرِّد مع فيروز حديثًا صامتًا:
"لما عالباب يا حبيبي منتودع
بيكون الضو بعدو شي عم يطلع
بوقف طلّع فيك وما بقدر أحكيك
وبخاف تودعني وتفل وما ترجع"
أبدع جوزيف حرب في كتابة كلمات هذه الأُغنية لفيروز حد الإعجاز العاطفي، رَسمَ كلَّ ما يحتاج الاثنان أن ينطُقا به في أغنية، تشعرُ هنا ليس بكونِه مجرَّد كاتب، بل نحَّاتًا ينحت بالإزميل الكلمات حرفًا حرفا..
***
أعدت زوجة نبيل سفرة الإفطار لعائلتها، كانت عابسةً بعض الشيء، جلس نبيل إلى السُفرة كالمعتاد، و طلت كل من سيرين و حنين من النافذة، تترصدن مجيء السائق الذي يقلهن إلى المدرسة يومياً ..
افتقد نبيل وجود مريم، فسأل زوجته عنها، قالت له نائمة، ثم لاذت بالصمت، و بدت الأمور عاديَّةً مع بعض العصبيَّة التي أحاطت بمُفرداتها..
كانت تشعرُ بانقباضٍ في قلبها.. شيءٌ من الخوف زارها، إلى وقتٍ متأخِّر ظلَّت ابنتيها معرضتان عن النوم يلاعبانها و تأخذها براءتُهما و الضحكات. كانت مُلحَّةً عليهما بالنوم، لكنَّها فشلت أمام تلك البراءة ..
سمعت صوت السيَّارة التي فرزها العقيد لتقلّ ابنتيها يوميًّا إلى المدرسة، أعدَّت الساندويشات، و قالت لحنين: سوف تُخبرينني إذا لم تأكل أختكِ الطعام، لا تَخافْي منها أنتِ حبيبتي..
بينما كانت سيرين تستغلُّ الموقف لتكون هي من تحصل على قبلة أبيها الأولى لتغيظ بها أختها، إلا أنَّ حنين أذكى من أن تخسر قبلة الصباح، فسلبت أولاً من أمها واحدة ثم من أبيها.
كان زوجها قد تأخَّر الليلة الماضية، فلم يبدِ اهتماماً لغرفة مريم المُغلقة.
قالت حنين: أشعر بالبرد، ردت الأم مبتسمة بقلبها و في ملامحها نكهة غضب : "اللي حسبته لقيته".
و أحضرت لها مِعطفًا، وقالت: أنت بخير، أعرف تمامًا حركاتك هذه، كان بيننا اتفاق السهر مقابل الذهاب إلى المدرسة. هل ستخلفين بوعدك معي؟
ردت بفكر شارد : أمي، بصراحة لم أحفظ درسي كاملًا، و اليوم سآتي بدرجة ناقصة على غير المعتاد.
أخذتها الأم من شرودها تحتضنها بصمت يوحي لها ألّا داعي للقلق، لا بد أن يكون هناك بديلًا لتعويض النقص غير التغيُّب عن المدرسة.
نظرت لسيرين التي كانت مُنشغلةً بأناقتها، تسرّح شعرها، و تحاول التبرج خفيةً باستعجالٍ قبل أن تلحظ أمها ذلك .
صارت أمها تتجاهل عن عمدِ التحديق بها مستنكرة لما تراه عيناها، ودون أن تبدي أيَّ اكتراثٍ تهندِم ملابس أختها المتأخرة كمبادرة تسعفها من التحجج بالغياب.
و ما أن انتهت من حنين حتى اشتعل غضبها الناعم على سييرين، قالت لها : شو اللي عمليته بحالك يا " نص نصيص" إنت صغيرة على المكياج، إنت رايحة على المدرسة ولا رايحة صالة أفراح.
و طلبت منها إزالة المكياج ، فرفضت سيرين وهربت بتلقائيةٍ منها إلى أبيها، فشعر الأب بأنَّه مضطرٌ للتدخل.
يقترب من ابنته بهدوء و يربت على كتفها و يهمس : حبيبتي سيرين عاقلة و تعرف كيف تتصرف لوحدها، أنت الكبيرة، ثم قبلها من جبينها.
كان لكلامه معها مفعول السحر، اقتنعت به قبل أن يكمله و كأنما هدوئه بالحديث بمثابة رشوة للاقتناع، تسرع باقتناص الفرصة بعد دقائق الطاعة و تمدٌّ يدها و تشير بالأخرى إلى خدها: بابا أعطني قُبلةً و المصروف!
ضحك العقيد نبيل من قلبه لبراءة المشهد، و قال: حبيبتي أنت. ثم تحايل عليها بالسؤال: من تحبين أكثر، أنا أو أمك؟
فأجابت باحتيال: ذلك عائدٌ إلى كم ستعطيني مصروفًا.
فقال: هذا يعني أنك تحبينني أكثر؟
فردت: المصروف يا نبيل!
نهرتها أمُّها محدقة من غيرتها، وقالت: قولي له بابا
فقاطعها نبيل و قال: اتركيها على راحتها، ست الحسن و الدلال.
و أعطاها مصروفها، فطلبت أيضًا أختها مصروفها من بعيد، إلا أن والدها رفض لأنه يدرك حاجة حنين لقليل من المسؤولية، طلب منها أن تأتي لتأخذ مصروفها بنفسها، فتبادر بالتحرك بكسلٍ و كأنَّها مُجبرةٌ على الانصياع للأوامر، و لا مفرَّ لها من الذهاب إلى المدرسة ...
مزمار السائق يستعجلهن، فتخرج سيرين مسرعة تتبعها حنين تاركة و رائها قبلة أبيها المنسية .
كان نبيل يستعدُّ أيضًا للخروج إلى العمل، فاستوقفته زوجته و أعطته ورقةً و قالت له:
- دخلتُ عند الصباح لكي أوقِظها، وجدت هذه الورقة على مكتبها!.. مريم سافرت إلى مصر، و تزوَّجت من يوسف!
قرأ الرسالة ثمَّ مزَّقها، و استشاط غضبًا يسبُّ عليها بأقبح اللعنات..
- كيف تجرؤ على ذلك؟! سأكلِّم إدارة المعابر، سأمنعها من السفر.
- وأسرع بالاتِّصال بمدير المعابر هناك، ثم حدَّثه بالتفصيل عن مريم، وسأله إذا ما كانت هناك، وهل يمكنه أن يمنعها من السفر..
في هذه الأثناء، سمعت زوجتُه إطلاقَ نارٍ قريباً من منزلها في الساعة الثامنة، فتوَّقف قلبُها. لكنَّ نبيل بقي مُنشغِلًا بُمكالمته، لم يهتمَّ كثيرًا لأصوات الرصاص المُنهمر، فمنْ يعشْ في غزَّة يَعتدْ على هذه الأصوات، ولا تثيرُ غرابَته.
لحظات، ثم عاد مدير المعابر إلى العقيد و أخبره بأنَّه لم يعدْ بإمكانه أن يمنعها، فلقد أصبحت مريم في الجانب المصري الآن، و قد خُتِمَ جواز سفرها بختم الخروج، و غادرت الصَّالة الفلسطينيَّة، و هي الآن في الصالة المصريَّة عند الجانب المصريِّ..
تناقل الجيران في هذه الأثناء أخبارًا تفيد بأنَّ أطفالاً قد قُتِلوا، فسارعت زوجة العقيد للاتِّصال بالبوَّاب تسأله كي يستطلع الأمر.. كانت ترتجف، بينما نبيل يُحاول أن يفعل ما في وسعِه كي يمنع مريم من السفر..
بعد أكثرِ من عشرين دقيقة، عاوَد البوَّاب الاتِّصال بزوجة نبيل من موقع الحادثة، ليخبرها ما حدث بارتباكٍ وتراتيلُ رعبٍ من هول الواقعة:
جاءت سيَّارتان و أطلقتا مئات الطَّلقات النارية من أسلحة رشَّاشة و قتلت ...
ثمَّ ابتلَّ ريقَهُ وقال: البقيَّةُ في حياتك، سيرين وحنين استشهَدوا!
صرخت الأمُّ الثكلى صرخةً مدوِّية، فيها قهرُ الدنيا:
- بناتي ماتو، نبيل بناتك ماتو، بناتك ماتو، ماتو يا نبيل، ماتو ولادك..
كان هذا كافي ليصل بها إلى سقف وعيها و تدخل في اللا وعي، أغميَ عليها لتسقط منهارة و كأنَّ الكون انتهى من حولها في تلك اللحظة. أخذ نبيل سلاحه و هرول نبيل إلى خارج المنزل يتخبط بين الأشياء كلها تاركاً وعيه فيه، يصرخُ و صدى صوته يدوي في الفضاء منادياً: بناتي .. بناتي .. حنين .. سيرين ..
و عندما وصل إلى مكان الحادث، كان منهارًا بكلِّ ما تعنيه الكلمة. حاول الناس أن يمسكوا به و هو يصرخ:
- بناتي، ليه بناتي، أطفال، خدوني أنا، بناتي لا، يا ريتني أنا، يا ريتني أنا، اقتلوني و رجعو لي بناتي، ليش يا رب، بناتي، حسبي الله و نعم الوكيل.. حسبي الله و نعم الوكيل
هزَّت هذه الجريمةُ المدينة، و أصابت الرأي العام بالصدمة و الذهول. روَّعت هذه الجريمة الناس، لم تشهد غزَّة فاجعةً كهذه، كانت هذه الفاجعة نتيجةَ حالةِ الفلتان الأمنيِّ المروِّعة، و المشاحنات السياسيَّة و التراشق الإعلامي..
توشَّحت المدينة بالسَّواد، اختلطت حقائب الطفلتين بالدماء و الأشلاء، و تبعثرت الكتب و مسحوا درس التاريخ و التاريخ من الأطفال. كانت آثار الرصاص واضحةً على السيَّارة، بعدما اخترقتها و مزَّقت الكراسي و حقائب الطفلتين، و بُقع الدماء متناثرة تُرى من على بعد أمتار..
توقَّف الزمان في لحظة سواد، لحظة انقسامٍ قاتمة..
” وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ"
***