على بُعد أمتارٍ قليلة من مياه البحر، في مدينة العريش المصرية، يقع الشاليه الذي تقيم فيه مريم..
أشجار النخيل هناك تقف شامخةً، تختلط خُضرتها مع زُرقةِ البحر، تفصل ما بين الشاليه وأمواج الشاطئ.
تستطيع التحرَّك بسيَّاراتك بسهولةٍ في هذه المدينة، لا كمائن، لا كبائن، ولا وجود إلا للحياة، تنتابُك هناك هالةٌ من الهدوء والمحبة والسكينة، تُخرِج منك أصدق ما فيك. العالم هناك منفصلٌ عن المدنية، حيث تَنفض أصوات الموج عنك الزُحام..
استطاعت مريم أخيرًا أن تحصل على خطِّ اتِّصالٍ بشبكة الإنترنت. استعدَّت للخروج إلى الشاطئ، أحضرت اللاب توب الخاص بها، وخرجت من الشاليه..
تمشَّت لدقيقتين فقط، حتَّى صارت أمام الشاطئ. لم يكن هناك سوى مجموعةٌ من الأطفال يمازحون الموج، وتفوح من قلوبهم روحُ الحياة المصريَّة، روحٌ تصيب قلبك بحالةٍ لا إراديةٍ من البسمة..
ارتدت مريم نظَّارتها الشمسيَّة، وجلست تحت خيمةٍ بدويَّةٍ صغيرة سقفها من سعف النخيل، نُصف جسدِها في الشمس، ونصفه الآخر يحظى بخطوطٍ متقاطعةٍ من الظلِّ والنور المتسلسل، عبر فراغات ذاك السقف.
فتحت اللاب توب، تفقَّدت بريدها، كمٌّ جنونيٌ من الرسائل..
ارتابت من هذه اللحظة.. كانت تشعر بشيءٍ خفيٍ خاطفٍ يوخزُ قلبها، الكثير من رسائل التعزية!
كانت مشتركةً في الكثير من القوائمِ البريديَّة للمواقع الإخباريَّة المحليَّة.. وكان أول عنوان أصاب مدامعَ عينيها:
"جريمةٌ تهزُّ قِطاع غزَّة.. أطفال العقيد نبيل، بأيِّ ذنبٍ قُتلوا؟"
صار جسدها يرجف بشكلٍ لا إراديٍ، فتحت الرسالة، وخافقها يرتعش كجناحي طائرٍ طنان!
صار لسانها يتلعثم حين قرأت الخبر، نزلت إلى أسفل الخبر وشاهدت صور الجريمة، صور سيرين و حنين، صورٌ من مسرح الجريمة، صورُ أشلائهم، صور سواد المدينة، وصور الجنازة..
"سيرين، حنين" صار لسانها ينطق أسماءهم وهي تجهش بالبكاء. وقفت من مكانها وانكبَّ جهاز الحاسوب على الرمل، صارت تصرُخ وتلطُم وتجري على الشاطئ، وتقول: حبيباتي، عمري، خواتي.
تدور لا تعرف إلى أين تذهب، وتضرب بيديها على صدرها، وتنادي: سيرين، حياتي حنين، قتلوهن، قتلوهن أولاد الحرام..
لا تدري ماذا تفعل، تُناجي الله "ليش يا ربي.. أطفال يا ربي"، تصرخ بأعلى صوتها "بدي موت"،"بدي ألحقهم"، "موتوني"...
أحسَّت وكأن أُخطُبوطًا يعتصِرُ رئتيها، ثم وقعت على الأرض، مغشيًا عليها..
سمعَ يوسف بخبر مقتل سيرين وحنين. أتاه الخبر في مقتله. صارت يداه بصلابةٍ تتحسَّس جِيدَهُ، يشدُّ بها ضيقَ نحرِه، يعرف هذا الشعورَ جيدًا، لقد أحسَّه يومًا.
كان وقع الخبر على يوسف مرهقًا نَزِقًا، أحكم شعور الفَقدِ قبضته وحاصره من كل منفذٍ. صارت أفكارُه المتحلِّلة تعيد تكوينها الخيميائيِّ، كل شيءٍ يعود، الحزن والضعف.. انثالت أحلامه بسرعةٍ، وغدت حُطامًا متراكمًا، كبرجٍ أرسلته الطائرات الإسرائيليَّة إلى الجحيم.
الشعور بالفقد سيئٌ جدًا، يأتي ويصحب معه صراعًا بين أسوأ المشاعر، يُجرِّدك من أيِّ أمل، يجعلُك حافيًا من أيِّ معالمٍ للحياة..
انكبَّ على هاتفه، يُحاول الاتِّصال بمريم، صاحبةُ الهاتفِ المُغلق دائمًا، والكارهةُ كليًا لكلِّ وسائل الاتِّصال الافتراضيَّة.
يتلهَّف ويتمتم راجيًا من الله ألاَّ يكون هاتفها مغلقًا، ملامح التَّوتر اتَّضحت على جسده، ولا شعوريًا صارت يداه ترتعشان.
" الهاتف الذي تحاول الاتّصال به خارج التغطية "
مع هذه الأسطوانةِ التي أجابت بالنيابة عن صوت مريم، الذي يحتاجه أكثر من أي شيء، تحول الرعب والقلق إلى واقعٍ ملموس.
كانت مريم تهوى هذه الحالة من التشويق، جعلُ الجميع في حالةِ قلق ٍعليها، وكان بالطبع يوسف ألذُّ من تُمارس عليه هذه الحالة.
للتوِّ عقد موعدًا مع سمسار أراضي، لا يعرف كيف يتصرف، هل ستعرُج مريم عن خِطتِهم؟ هل يستمرُّ في بيع أملاكه الصغيرة والانتقال للعيش في مصر؟ أو أنَّ القدَر جاء مُحمَّلًا بغبار الظروف ليبدِّد الطريق ويعيده إلى ظلمته؟
***
يجلس يوسف مقرفصًا في ركنِ الرواق يحدِّث نفسه:
إنِّي أهبك كلَّ شيء، لا وقت لديَّ، لقد شرعت بإجراءات بيع البيت، لقد سحبت أوراقي من الجامعة، أنهيتُ كلَّ ما يربِطُني بهذه المدينة.
حقًا لا أعرف التصرف، هل أحزن على نفسي، أو على دماءٍ انسكبت من صُلبِك؟
عقلي أوَّل موتي، يفيض بي أوجاعًا ودموعًا، يدمنُ أن يعيدني إلى مُستنقع الكآبة القُرمزيِّ. كيف يا مريم أنت بهذه القسوة؟ يجب أن نتحدث، ينبغي عليكِ الآن أن تقولي لي ماذا أفعل، أنا أشعر بقمَّة العجز يا مريم، قمَّة العجز..
تركيزٌ، تركيزٌ، تركيزٌ، صار يوسف يردِّد هذه الكلمات وهو يستنشق الهواء ببطءٍ، ليشرع باتخاذ قرارٍ ملحميٍّ في عمق خاصرة دربه:
لقد فاضت بيَ الدنيا بما يكفي،، صارت ترنِّحُني بالاتجاه الذي ترغب.. لن أتوسَّل رحمة أحدٍ بعد اليوم، وإنَّني لأفضِّل الرحيل على أن أسلك طريقًا يستوقف حياتي عند صراعٍ واحدٍ، صراعٍ مميتٍ بين ضعفِ عقلي أمام قلبي، وقسوة قلبي أمام عقلي..
أمتعبةٌ أنتِ يا مريم؟ أمنهكةٌ أنت يا روحي؟
سأبيع البيت وأرحل، فإذا ما بقيت يا مريم على عهدنا، أهديتُك بلا تردُّدٍ عمري، وإذا ما عُدتِ إلى البَينِ الذي أدمنتي طرقَهُ على وجعي، فأنا راحل من هذه البلاد، التي كلُّ ما فيها صار يذكِّرُني بك، كلُّ ذرةٍ من تفاصيل الحياة في هذه المدينة مرتبطةٌ بك..
لقد مللتُ حقًا أن أظلَّ على الدوام في حالة انتظار، لقد صَبرت كثيرًا، ولست نادمًا على شيء، والآن عليك أن تختاري البقاء أو لا..
لكن أرجوكِ يا مريم ابقِ على ذمَّتي، فأنا أُحبُّك، وأعرف أنَّك ستتخلين عنِّي عمَّا قريب..
وظلَّ يوسف على عهد الرحيل، وشرع في استكمال اجراءات بيع بيتِه، وإنهاء كلّ ما يربطه بالمدينة، ليبدأ حياةً جديدةً في مهجرٍ محطتُه الأوَّليَّة مصر..
***
عند الظهيرة، كان صوت الأذان يأتي من بعيدٍ متألِّقًا مع صدى السكون، بعيدًا في عمق الشيخ عجلين، في بيتٍ تشعرُ بأنَّه أقرب للحدود من البحر..
يحيطُ البيت من كلِّ الجهات، مزارع، وشوارع رملية، وفوضى العُشب..
تستطيع من شدَّة السكون، سماع ضجيج السيَّارات المتردِّد من شارع البحر الذي يبعد ربَّما مئات الأمتار، كانت هذه صبغةُ أمانٍ يكتسي بها البيت، تستطيع الهروبَ قبل أيَّةِ مُداهمة مفاجئة..
مرت بضعةُ أيامٍ على حادث اغتيال بنات العقيد نبيل، وبدأت ملامح مصطفى يأكلُها الأرق، وتُجعِّدُ قلبه، وترهَّلت رُوحه..
لم يحلم في ليله.. لا تزوره رؤيا ولا كابوس، ينام على نفسه كجثةٍ مُهملة.. تآكل عقلُه، أصاب هدوءَه الشوك، ينفجر من مرور ذُبابة..
يجلس مصطفى على التُراب قرب مسبحٍ خالٍ من الماء، مُهمل..
يُرافقه في هذا البيت بِضعُ أسلحة، ورفيقه أبو صهيب أخو المغدور به. كان رفيقُه لا يشبه الماضي، ملامح الغضبِ التي كانت تكتسي وجهَهُ، طَفا عليها الرضا..
مُصطفى الآن يستطيع البقاء مُحدِّقًا بنظرِهِ للسماء أكثر من 6 ساعات دون أن ترمُش عيناه، ودون أن يحرِّك عُنقه.
جالسًا كالقُرفصاء على أريكةٍ قديمة، مطرَّزةٍ بالديباج الخمريِّ، ومحشوَّةً بالقطنِ المصريّ.
لا يفكِّر، يستحضر المشهد الأخير من الجريمة..
على قلقٍ، على أرقٍ، على توترٍ، على وجعٍ، على ألم..
تورَّط حدَّ الثمالة، تُهمةٌ لا توبةَ لها، هروبٌ بصبغةٍ سرمديَّة، ضميرٌ أعلن الحرب على صاحبه..
خرجَ أبو صهيب من الباب الخلفيِّ للبيت الذي يُطلُّ على المسبح المهمل والحديقة الرثَّة، حيث يجلس مصطفى..
كان يحمل في يديه صينيَّةً من البلاستك، عليها فُنجانان وإبريقُ شايٍ نحاسيٍّ قديم، تقدَّم صوب مصطفى مُبتسمًا بحذرٍ وقال: أعددت لي ولك الشاي، يجب أن تخرُج من هذه القوقعة التي تحبس نفسك طوعًا بها، مرَّت عدَّة أيَّامٍ وأنا معك، لم تتكلم خمس كلمات على بعض. بدأتُ أشكُّ بأنَّك أُصبت بالبكم!
لم يحرك مصطفى رأسه، وبقي كما هو غير آبه بما يقوله رفيقه، استمر أبو صهيب الحديث:
- نحن لم نتعمَّدُ قتل بنات العقيد، هو سوءٌ في تقدير الوقت، القتل الخطأ واردٌ في الدين.
ثم تلا الآية الثانية والتسعين من سورة النساء المتعلقة بأحكام القتل الخطأ:
" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَئًا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ.."
أدار مصطفى رأسه قليلًا، ثم رَمَقَهُ بنظرةٍ تختلِطُ فيها السُّخرية مع القهر، ثم عاد مجددًا ليحدِّق في السماء.
بدأت عروق أبو صهيب يلوِّثُها الغضب شيئا فشيئا، اشتدَّت أحباله الصوتيَّة، وصار صوتها جديًا أكثر، وأعلى قليلًا:
- هذا ما أنت عليه، لا تنطق، تحمِّلني ذنب مقتلِهم، ونسيت أنَّ والدهم قتل أخي، وما زال حيًّا يرزق، وربما الآن يتمتَّع بفرصةٍ أكبر من التعاطف، ولقد تحوَّل إلى بطلٍ قومي. كانت رغبتك منذ البداية ألاَّ نُعلن عن مقتله، ولم تشأ اتهامه. دُفن أخي بغير جنازة، بغير مشيعين، وأنت الآن تعذِّبُني بصمتك، وكأنَّ ليس لي من أخٍ قد قُتل، وأنا من قصدتُ عن عمدٍ قتل الطفلتين.
نحن على حافة انهيار، إمّا أن نُمسك بزمام الأمور أو تضيع كلُّها. رغم خطأ القتل، إلاَّ أنَّ الكثير من عناصر السُّلطة صارت تخشانا.
دعني أُعاتبك، ربما أنت لا تشعر بشيءٍ من حُزني الأزرق.. لقد قتلوا أخي، وأنت لن تفهم ذلك، أنت مجردٌ من إحساسك الأخويّ، وأكاد أن أجزم أنَّك لم ترَ أخاك منذ سنين، والآن أخوك يذوق ويلات الحياةِ بسبب موقعك التنظيميّ. كم مرَّة ابتزوك بأخيك، ولم تأبه؟
لا أريد أن أقسو عليك بالحديث، لكن لا تقسُ عليَّ بالصمت، فأنا فقدت عزيزًا، وأنت لا عزيز لديك، لذلك لن تفهم وجعي، وستأخذ الأمور بظواهرِها، وظواهرُها دائمًا خدَّاعة.. لا تحمِّلني ألمًا لا طاقة لي به.
بدأ التوتُّر يملأ المكان، يستنشقه مصطفى، ويزفره رفيقه أبو صهيب، وتزداد مع صمت مصطفى حدة القسوة في حديث أبي صهيب.
- لم تكن غايتي قتل بناته، كان هو ثأري الذي لم ينتهِ، القتل الخطأ وارد وشفيعه الديَّة، سأرمي للعقيد ديَّة أبنائه وأقتله، هكذا يرتاح أخي في قبره..
انتابت مصطفى موجة غضب تدفقت مع دمه، على إثر تكرار أبو صهيب التلاعب في تفسير الآية القرآنية، ومحاولته تبرير القتل من منطلق ديني. صار أبو صهيب يمشي ذهابا إيابًا على رصيف المسبح المتهالك، ويتمتم بكلامٍ غايته استفزاز وتوتر مشحون يكسر صمت مصطفى السرمدي، تارة يعاتبه، وتارة يبرِّر الجريمة بالالتفاف في تأويل المعاني، وتزيين ملامحها..
صار التوتر أشبه بإعصار.. وما إن اقترب من مصطفى، حتى انفجر صارخًا في وجه أبي صهيب:
- لا تلعب دور القاضي ونحن جناة، توقَّف عن تحريف الدين، توقَّف عن ممارسة قذارتنا السامة، أنا لست نِدًا لك، أنا الحقيقة التي لا تريد أن تراها، أنت مجرم، وأنا مجرم..
كان صراخ مصطفى كمثلِ الرصاص الذي تراشق من كل صوب تجاه حديث أبي صهيب، فتلك الجريمة جرّدته من الحماقة والعنجهيَّة. صار يشعر ببؤس عقله، وبعمقٍ في أغوار نفسه، وصار يرى نفسه متورِّطًا في شبكة أفاعٍ متشابكة لا حل لها..
قاطع صراخه أبو صهيب بصراخٍ أكثر حدَّة:
- أنت تتهمني بالإجرام، وأنا من فقدت أخي. أنت لا تفهم، مجرد حمار، يسوقك حمار آخر، طفح بي الكيل منك ومن غبائك. أنت تقرفني جدًا يا مصطفى، أنا أكره أن أكون معك..
ثم أخرج سلاحًا من جيبه، وصوَّبه تجاه مصطفى مباشرة..
***
"لا أحد يعلم الغيب" هذا هو قانون الحياة، هي حكمةُ الربِّ الأعظم، فالإنسان شغوفٌ بطبيعته، وحدها المجاهيل هي التي تثير شهوة فضوله ليسرع باحثًا عن مستقبلٍ يليق بطموحه والأمنيات اللا منتهية. متاهة الاحتمالات هي واحدةٌ من ألعاب القدر التي لا يملك الإنسان فيها حقَّ الاختيار. أنت مُجبرٌ على اللعب، دون مقدمات ستكون مسيّرًا بدخول المتاهة، مخيّرًا أمامك فوزٌ أو خسارة.
لم أدرك أبعاد هذا الجنون الشيطانيّ، حبِّي لك كان سيِّدَ فكري ذاك الوقت، غيَّبتُ بمحض إرادتي عقلي، وأنا ضحيّة وأنت ضحية في الخيارات التي لا شأن لنا فيها.
لا أعلم إذا كان أخوك متورّطًا في دم بنات عمي أو لا، لكن في كلتي الحالتين لا يمكن البقاء مع شُبهة، ولا يمكنني أن أستمر. سأتذكَّرك الآن بالدم لا بالحب..
كنتُ أجهّز نفسي من اللا شيء إلى الكل.. لأجلك. دائمًا تذكّرني أنت بالكلِّ والكمال. لقد اخترت لكَ قمصان نومي بحرص، تعبت في اجتهاد خبايا ذوقك، اخترتها بألوان الربيع كونه موسم العسل، اعتقدت أنَّ الأيام التي سنقضيها معًا ستحلو بكلِّ هذه التفاصيل. لم أعلم أن هناك لعنةً ستحوّل ربيعي إلى خريفٍ باهِت، ظللت متفائلة إلى أن سمعت خبر الجريمة متأخرة، تأمَّلت وجعي وخيبة التوقعات، اجتاحني التشاؤم والضعف والانكسار.. لم أعلم أن حظِّي العاثِر مُتنقِّلٌ يطير معي من بلدٍ إلى بلد، وسيلحقُني مهما حاولت منه الهرب.
الموت هو سيّد كلِّ شيء، والحبُّ سيّد العاطفة وأحيانًا المنطِق.
قَتلُ بنات عمي اعترض الكل.. هل سأنسى؟، ماذا أفعل ليبرد قلبي الغارق بالذنب، كلُّ حاضري تكسَّر، حاضري الذي لطالما حلمت به وخطّطت له مليًّا، وتمسَّكت لأجله بكلِّ تباريح الأحلام، تشبثت بالأمل، لكن لا محالة من الثالوث الملعون.. لا محالة.
"أن نخسر التوازن من أجل الحبِّ جزءٌ من حياةٍ متوازنة"
أتذكَّر هذه العبارة جيدًا، ظلَّت عالقة في ذاكرتي من أحد الأفلام، لها قدرةٌ هائلةٌ في أن تصبَّ واقعًا استثنائيًا أعيشه، واقعًا يلجُم حظِّي العاثر أكثر، حظِّي العاثر بما فيه الكفاية.. أظنُّ أنَّه لم يحتجْ يومًا لمؤامرات الحبِّ والحرب، لقد كان متهالكًا بما فيه الكفاية.
أنا أحتضر يا يوسف أمام هذا الحب المزمن، وينتهكني الندم كــورمٍ خبيث. أنا بحاجةٍ إلى قُربك، يوسف أسعف تدهور حالي، نيران ضميري تشتعل أكثر.. لقد فات الأوان، لن يُجدي شيءٌ نفعًا.
ها نحن الآن نفترق، نفترق إلى أبدٍ جديد، نفترق مرَّةً أُخرى للمرَّة الثالثة والرابعة. لا أدري هذه المرَّة هل هُناك من عودةٍ لهذا الفراق، أم أنَّ الدم سطرُ نهايةٍ سرمديةٍ له.
لقد تواصلت مع المحامي الخاص بي في غزَّة، بمجرد قراءتك لرسالتي هذه فأنت حر، أعني أنَّك لست بعد الآن زوجي، لقد طلَّقْت نفسي منك، وطلَّقَتْني نفسي وروحي.
لا أدري ماذا فعلت بنفسي، فأنا الآن المُطلَّقة العذراء، إلاّ من قبلةٍ وحضنٍ لن أنساهما في عمري.
أحبُّك يوسف، أحبُّك بقدر أوجاع المخيم، بقدر هذا الحظِّ العاثر، أكثر من كلِّ آلام فلسطين، وأكثر من كلِّ سكنة خوفٍ انتابتنا، أكثر من أيِّ شيءٍ، أكثر من حُرقتي وأنا أكتب الآن..
أريد أن أبكي في حُضنك يا يوسف، لم أشعر يومًا بأنِّي ضعيفةٌ كالآن، ولم أشعر بأنِّي أحتاجك قدر الآن.
أشعر أنني خذلتك من جديد، أنا لا أصلح للحياة يا يوسف، أنا صحراءٌ جرداءٌ تلفظُ حتى الماء، وأنت أغدقت عليَّ بالماء لأعود للحياة، لكنِّي تجاهلت ماءَك، تجاهلت تعبك.. أنا أحبُّك، أرجوك الآن لا تتركني، أرجوك ابتعد عنِّي!
أعيش يا يوسف موتًا من نوعٍ آخر، أعيش ولادة موتٍ يُشبه الرعد، مفجعًا مخيفًا عشوائيًّا، يهدُّ ليل عافيتي.. موتًا مرادفًا للظلام، ظلامٌ لا شروق له يتسلَّلني بهدوءٍ، يقضي عليَّ ويتركني أجفُّ، ليعود ناصبًا فخَّه.
أعيش يا يوسف موتٌ يسبق الموت الأخير، يسبق العشاء الأخير، أعدُّ له أغراضي، ذكرياتي، أحلامي.. أعلم بقدومه، وما عليَّ سوى الانتظار..
موتٌ يرنُّ صوتُه الكئيب المريب في ذهني، يقول لي دائمًا الوقت ينفد، أقول له الدمع نَفد!
أنا آسفة، أعرف أنَّك صَبرت أكثر من طاقة البشر على الصبر، وأعترف أنِّي كُنت مذ نعومةِ أظافري أتلذَّذ بتعذيبك، لكن أُقسم لك أنَّ تلك لم تكن غايتي.
حِرصُك الدائم على البقاء على عهدِ قلبك قربي كان أجمل شعورٍ ألتقطته، دائمًا كنت أفعل أيَّ شيءٍ كي أجدِّد هذا الشعور في قلبي، في كلِّ الأوقات كنتُ أرحل بإرادتي، لكن هذه المرَّة أرجوك سامحني، هذا الوداعُ رغمٌ عني! آسفة!
بعد اللحظة التي تقرأ فيها رسالتي هذه، لن تستطيع الوصول إليّ، سأختفي من حياتك تمامًا، لكنِّي سأبقى أُراقبك من بعيد لأطمئنَّ عليك دون أن تشعر.
سأعود إلى جانب أُسرتي، فهم الآن بأمسِّ الحاجة إلى وجودي بجانبهم، لقد كنتُ ابنتهم على مدى وقتٍ طويل، والآن بالنسبة لهم، أنا ابنتهم الوحيدة.
كان هذا آخر ما دوَّنته مريم ليوسف، وقضت بعدَه الليل تجهش بالبكاء حتَّى ساعات الصباح. وعند الساعة الثامنة صباحًا، جاءَت سيَّارة أجرة لتأخذَها إلى معبر رفح، ثمَّ إلى غزَّة..
***
كانت مريم قد أرسلت الرسالة ليلة عودتها لغزَّة، ثم بعد إرسالها أقفلت بريدها الإلكتروني وأيَّ وسيلةِ اتّصال كان يمكن ليوسف أن يتواصل بها معها. الآن في وسعِه أن يقرأها، لكن لا يُمكنه الردَّ عليها، وذلك كان كافيًا لأن تزفَّ عيناه دمعةً، كدمعةِ الأنثى على وطنٍ ضائع في المهجر، فقرَّر أن يكتب رسالةً لها في تدوينةٍ ينشرُها على الإنترنت.
كان على يقينٍ أن مريم ستقرأها، فالحبُّ مثل فلسفة المجرم والجريمة.. سيكولوجيًا، سيقوم المجرم بعد فترةٍ قصيرةٍ جدًا بزيارة مسرح الجريمة، فماذا إذا كانت الجريمة هي الحب؟
إلى التي لم أعد أقوى على ذكر اسمها بعد الآن:
لكلِّ الظروف الساقطة، ذلك الوقود الذي يدفع مِصعد الفُراق أسرع، سُحقًا أيُّها الجمعُ القذر.. قذارةٌ تطوِّق العنق، أفكارٌ تتقلَّب على نارٍ هادئة، تقزُّزٌ لا يُسعفه مجاز..
هذا ما فعله رحيلك المُرصَّع ببشاعةِ أشياءٍ لا دخل لي فيها، جدِّفي بشراعك بعيدًا عن محيط حُزني، فالمحيطات لا تحمي مغفَّلِي البحر..
لن تستطيعي أن تتحمَّلي قُبح المفردات، قد قلت، والآن أسأل..
ما هذا الضعف الذي أعيشه، أنا عاجزٌ عن أن أقسو عليكِ أكثر، أنا الحضيض الآن.
كنت على حافة الهاوية، والآن هويت إلى قمتها..
كيف تحلِّين للظروف امتصاص قلبي؟ كيف تسمحين للذباب بتشويه العسل؟ وبأيِّ حقٍ تتخلين عني؟ لماذا اختفيتِ فجأة؟
لم تعطني فرصةً لنتحدث؟ كيف تنفردين لوحدك بقرارٍ يخصُّني ويخصُّك؟ كيف تقذفين حياتي بورقة!
سأمشي كالتائه في مفاصل غزَّة، أتحسَّس الجُرح من أرصفة الشوارع، أُشفق على انعكاس وجهي في عيون الآخرين، أعدُّ في كل دقيقةٍ ثلاثين ساعة، وأُلقي على روحي المُعذَّبة خِطاب التأبين..
أعيش مرحلة التحلُّلِ الطبيعي لبقايا المشاعر المعدومة، المعدومة بفعل فاعل، وأتخلَّص من ميراث أحلامي الجميلة، أُحرقها كما يفعل الهنود بأمواتهم.
هاكِ كلُّ شيءٍ قد مات، المجدُ للعادات والتقاليد والأفكار المُميتة، ولتذهب إلى الجحيم قُلوبنا المُثخَنة بألف طعنة، والمجد لأقنعة الآباء، الموت لنظرتهم المستقبليَّة الضائعة في ضباب المؤامرة..
ولنَمت نحن قبل الأوان، ولنَمت من دون خوفٍ، ولنمت رفضًا لأفكار العبيد، ولنختصر عذاب الحياة..
ساعة الصفر لإطلاق رصاص النصِّ صوب خافقي حانت، يموت القلب إذا تكدَّس الدم الفاسد، وها قد مات كبريائي.. مخاطرةٌ أم محاكمة، أن أمشي طواعيَّةً لقطع الخط السريع المزدحم؟
هل يحدث أن تشتهي أحدًا حدَّ الرفض؟ إنها فلسفة الدم والحب، أن تحتوي قلبًا سرعان ما يتضح أنَّه قُنبلة!
السماء بنفسجيَّةٌ، تمشي ببطءٍ خانقٍ، وترشق غيومًا لا تُشبه عين الفنَّان.. الشجر مترهِّلٌ، والشمس لم تعد تُهذِّب إشعاعها.
هل يحدث أن يَقتُل المخيم حبَّ ولدٍ في عُلب المدينة؟ أو أن تقتُل المادة قلبًا تغالبت عليه الروح؟
هل يبقى اسم الحبيبة مثلما هو، ما لم ترتكب أيَّ محاولةٍ أو مخاطرةٍ أو حماقةٍ لأجل الحبّ؟ وهل الظنون كفيلةٌ بشنقِ آخر أنفاس الأمل؟ هل يُعقل أصلًا أن يطلب اللصُّ توفيقًا من الله؟
هذا الحب عنجهيَّة التناقضات، صوت الظالم البريء والفارس القاتل الذي يصفِّق له الرعاع، إلى أن يركُلَهم من على كرسيِّ تاجه..
أنا اليتيم، أنا اللقيط، أنا خيط العنكبوت البائس..
ساعة الصفر حانت، ومعابر الترحيل لا تنظر إلى وراءٍ لا يحتوي أملًا ولا حبًا ولا نايًا..
كتب يوسف هذه السطور، ثمَّ أعاد طباعتها على الحاسوب، وقام بنشرها على مدوَّنته الخاصة، التي يكتب فيها باسم مستعار لا يعرفه إلا مريم..
كانت هذه الرسالة بمثابة تفريغٍ لحالة الغضب التي عايشها من رسالة مريم، أحسَّ بشيءٍ قليلٍ من الراحة.. راحةٌ تؤخِّر الموت قليلًا لا تُلغيه.
ثم لا شعوريًا، حاول أن يتَّصل بها مرة أخرى، وكالعادة تجيب اسطوانةٌ بالنيابة عن مريم:
الرقم الذي تحاول الاتَّصال به غير متاح حاليًا..
***
اندفع مصطفى غاضبًا باتجاه أبي صهيب، ليُصاب برصاصةٍ في قدمه اليُمنى مخترقةً رُكبته، فوقع قبل أن يصل إليه، اقترب أبو صهيب منه وبصق عليه..
وأطلق رصاصةً ثانية على طرفه الأيسر، في فخده، وببرودٍ مقيتٍ بدأ يتحدث معه:
- أنت من اضطرني لذلك، ليس ذلك فحسب بل ورَّطتني بندمك، والآن أنا مُتهمٌ أمام التنظيم بالاعتداء عليك ومحاولة قتلك..
لكن إليك المفاجأة التي لم ولن تخطُر على بالك، تظنُّ نفسك الأذكى بيننا، إليك حصاد ذكائك.
كانت الرصاصة الثانية قد أصابت مصطفى في وريده الفخذي، فتسبَّبت له بنزيفِ مبررٍ حاد، وبدأ وجهه بالاصفرار نتيجة فُقدانه كميَّةً كبيرةً من الدم.
أراد أبو صهيب أن يُحضر حبلًا لكي يكتّف به مصطفى، فذهب لأجل ذلك، وحين عاد، رأى مصطفى حالتهُ ازدادت سوءًا، ودرجة حرارته تنخفض وأطرافه تزداد برودة، وملامحه يبدو عليها الغثيان، فقال: يبدو أنِّي لستُ بحاجةٍ لهذا الحبل. وأكمل حديثه مع مصطفى قائلًا:
- لم تسأل كيف عرفوا بمكان أخي ورفاقه، رغم سريَّة المكان الذي تمَّ وضعهم فيه، حيث لم يكن يعرف أحدٌ بتواجدهم غير أنا وأنت والقيادة العسكرية، متمثلةً بشخصٍ واحد.
المفاجأة في ذلك، أنِّي أنا من بلَّغتُ عن مكانهم، ليس ذلك فحسب، لقد سمَّمتُهم، ومفعول السم يحتاجُ لمُدَّةٍ تتراوح من 5 إلى 7 أيام لكي يُودي بحياتهم، وبلحظةٍ، أرواحُهم تطير إلى الملكوت السماوي، بمعنى آخر موتهم داخل سجون السلطة كان مخطَّطٌ له، لم يكن عبثًا، أي أن السبب لم يكن التعذيب.
أعرف أنَّك الآن تتساءل لماذا أعترف لك بذلك، ببساطة لأني أريدك أن تموت وروحُك متعبة، ومعلقٌ في عنقك أرواحًا بريئة كثيرة. سأحرُص على أن تسمع ما يكفي لتعذيبك أكثر من وجع الرصاصتين.
سأغيب عنك لحظة، لأُجري مكالمةً هاتفيَّة وأعود. حاول ألاَّ تموت.
بدأت الرؤية تتلاشى شيئًا فشيئا، صار أقربَ إلى الإغماء. كان مازال واعيًا لما يقوله رفيقه أبو صهيب، فصار يتمنَّى الموت قبل أن يكمل أبو صهيب كلامه، وأصبحت صور الطفلتين اللواتي كان طرفًا في موتهم تحوم حوله، تحاسبه، يسألونه بضحكةٍ بريئةٍ، "ليش قتلتنا يا عمو؟"
شعر بأنَّ الدُنيا تضغط على عُنقِه، تريد أن تعذِّبه بالاختناق فقط، لكن لا تريد له الموت.. تريد أن تجعله يعيش بسرمديَّة العذاب النفسي.
بعد أقلَّ من دقيقتين، عاد أبو صهيب وأكمل حديثه:
- أعتذر عن التأخير، لكن كانت مكالمةً مهمة لها علاقة بما سأقوله لك. أريد أن أذكِّرك بأفضالي عليك، لقد استسمحتُهم كثيرًا كي لا يقتلوك، لأنِّي كنت أحبُّ صداقتك حدَّ التسلية. لكن كما أنَّك لا تعترف بأخيك، أنا أيضًا.. لكنِّي أكثر وحشيَّةٍ منك، فأنا لست مبقيًا لا على أخٍ ولا على صديق.
إليك مفاجأةٌ أخرى، صحيح أنَّ أجهزة السُلطة تعتقل أحيانًا الكثير من شباب التنظيم، ونحن نقوم بالاعتداء على مراكز الشرطة وتحريرهم. لكن هل سألت نفسك لماذا يتمُّ اغتيالهم من قبل الطيران الإسرائيلي بعد تحريرنا لهم؟ ببساطة، يتمُّ تسريب بعض المعلومات لأجهزة السُّلطة عن بعض المطلوبين للموساد الإسرائيلي، فلا تجد السلطة سبيلًا لحمايتهم غير الاعتقال! ثمَّ يتداول الناس الأخبار التي تتعلَّق بهم على هذا النحو "الشهيد الذي اعتقلته السلطة، اغتالته اسرائيل".. عصفورين بحجر..
والآن فكّر، كم من معتقلٍ أخرجناه من سجون السلطة واغتالته الطائرات الإسرائيلية؟ يُؤلمُك هذا؟ أعرف أن هذا الكلام يقتلك أكثر من الرصاص، فأنا أدرى من غيري بمعدنِ قلبك، ويُسعدني جدًا أن أكون أسوأ من عذاب القبر عليك.
يا رفيقي، يا ملاكي الحبيب، إليك المفاجأة الأخرى، أسطوريَّةٌ ستكون بالنسبة لك. التقارير التي قُمت بإعدادها لعمليَّة اختطاف العقيد نبيل كانت غير حقيقيَّة. لقد كنت متعمدًا أن تتمَّ العمليَّة في تلك الساعة، كنت أعلم أن السيَّارة السوداء تقلُّ بنات نبيل وليس العقيد بذاته. لم ينتبه أحدٌ منكم لذلك، أيُّ عقيدٍ هذا الذي يذهب إلى عمله الساعة الثامنة؟ دوام المسؤولين عامة الساعةُ العاشرة، هذا شيءٌ بديهيّ، أرأيت كيف يغدو الذكاء غباءً؟
ليس ذلك فحسب، إطلاق النار حينذاك لم يكن من السيَّارة السوداء، بل من شخصٍ في الناحية الأخرى، تمَّ استئجارُه لكي يبدو الإطلاق من داخل السيَّارة. وبما أنَّ سائق السيَّارة أعُزّل ليس كما دونت لك في التقرير، فلقد أغدقنا أنا وأنت سويًا بالرصاص على السيارة، وكنت أتعمَّد قتل الطفلتين.
بمعنى آخر أيضًا، اغتيال الطفلتين كان مُخطَّطٌ له، وإطلاق النار من الطرف الآخر كانت مجرَّد تمثيليَّة لإقحام فريقنا بمبادلة إطلاق النار، كما أشرتَ في الخِطة البديلة.
حتى الشباب الذين قاموا بتعطيل كاميرات المراقبة، لم يقوموا بذلك، لم يكن هناك أصلًا في الشارع كاميرات مراقبة، أيُّ شارعٍ في غزَّة ذاك الذي يحتوي على كاميرات مراقبة؟!
أتعلم ماذا؟ هم قاموا بوضع كاميرا مراقبة بحيث تصوِّر الجريمة كاملة، بالتحديد تصويرك أنت وباقي الفريق. إليك التفسير، الغرض من كلِّ هذه العمليَّة شيءٌ في منتهى اللذَّة والفتنة! سيأتي يومٌ تُنشر فيه الجريمة كاملة في وسائل الإعلام، وتخيّل حجم الفتنة حينها، إسرائيل لم تعد ترغب بأن تُحارب بأسلحتها، ولا ترغب بأن ينتقل القتال إلى داخل أراضيها، تُريدُكم أن تقضوا على أنفُسِكم بأنفسكم، دون أيِّ تدخلٍ منها، هذا هو الأسلوب الجديد لجيش الدفاع الإسرائيليِّ في محاربة الفلسطينييِّن.
اقترب أبو صهيب من مصطفى وتحسَّس نبضه، وقال:
- ما زال لديك بضعُ أنفاسٍ لتسمع المزيد، قبل أن يصحَبَك عزرائيل للجحيم. أنا أعمل مع جهاز الموساد الإسرائيليِّ منذ عشرِ سنوات، نعم منذ عشر سنوات تخيَّل؟
كنتُ أشفع دائمًا لك، كان هناك أمرٌ بقتلِك منذ مدة، فاقترحت عليهم استغلالك، وقاموا بإعطائي هذه العمليَّة، وأخيرًا بعد ثلاث سنوات استطعت بنجاحٍ تنفيذ هذه العمليَّة، ستسألني ماذا سأستفيد؟
إليك الخبر الذي سيقطف آخر أنفاسك، سيأتون خلال أقلِّ من خمس دقائق، سيقلّوني من هنا إلى داخل إسرائيل، إلى قرية الدِّهنيَّة، حيث سأكون بذلك مواطنًا إسرائيليًا، أنجزت مُهمتي، وسيفخر أبنائي بوطنيَّتي، وسأتحوَّل هناك لبطل، ولديَّ معاشٌ خاص، وسأعمل في التجارة الحرة هناك..
سمع أبو صهيب صوت جيب أمام الباب، وقال:
- ها هم قد وصلوا في معادهم بالظبط. والآن سأودعك. ولأنَّنا تعلمنا في أجهزة الموساد ألا نثقُ في الاحتمالات، بالرغم من عدم وجود احتمال لتعيش بعد هذا الكم الهائل من نزيف الدم، لكن هناك فرصة واحدٍ بالمائة لأن تعيش، وواحد في هذه الحالة لا يُناسب أعمالنا، لذلك يُسعِدني أن أقضي على هذا الواحد.
وأطلق رصاصتين، واحدة في مُنتصف رأسه، والثانية في قلبه، ثم خرج بالجيب مع اثنين من المتعاونين مع الموساد الاسرائيليِّ، وقاموا بتوصيله إلى الحدود، ثم جاءت سيَّارةٌ من الجانب الآخر واستقلَّها أبو صهيب إلى قرية الدُّهنيَّة، حيث كان أبو صهيب يملك آنفًا بيتًا هناك.
تُعتبر قرية الدهنية، مأوًى للمتعاونين أمنيَّا مع إسرائيل، تحتضنُ فيه إسرائيل كافة عملائها الذين تنتهي مهامُهم مع أجهزة الموساد، وتمنحهم إسرائيل الجنسيَّة الإسرائيلية، بصرف النظر عن الجنسيَّة التي يحملونها.
***
مرَّ يومان على نشر يوسف تدوينَتِهِ الغاضبة. كان اليومان كافيين لأن يصرفا الغضب عنه، ويعودان به إلى مزيج العقلِ والعاطفة.
حدَّث نفسه بصوتٍ خفيض:
أنا بقسوَة حروفي تلك لست إلا عاشق شرقي، يمتهن احتقار كلِّ ما يخسر، أنا لست وفيًا بما فيه الكفاية!
أثارت هذه الفكرة غصَّته، فذهب مسرعًا إلى الحاسوب، ثم دخل على التدوينة بنيَّةِ حذفها، فوجد تعليقًا من مجهول:
لن تغدو إنسانًا، ما لم يتحوَّل قلبُك إلى أنثى..
كان على يقينٍ أنَّ هذا التعليق كتبته مريم، وعلى يقينٍ أكبر أنَّه ارتكب خطًا فادحًا بنشر هذه التدوينة، لكنَّه شعر بالأمان، فما زالت مريم تبحث عنه، تفكِّر به.. ما زالت وفيَّةً رُغم أنَّ ما أصابها ليس بالسهل..
ما لم نفكِّر بالتخلي يومًا عن حبِّنا، فلن ينجلي هذا الحبُّ أبدًا.
أجل أحببتُك، وحاجتي لحبِّكِ أشدُّ من حاجة الدمشقيِّ لشذى الياسمين. تذكَّر اليوم الذي لم يمضِ عليه كثيرًا، استحضرت خيالاته وجودَ مريم، شعر أنَّه اقترب من أُذنها، وهمس وهو يتنفَّسها من بين جدائل شعرِها الحرِّ.
و قال لها من جديد: لن أتخلى عن ذاتي يا ذاتي، مهما قسوت بفطرتِك على خافقي، سيظلُّ حبُّنا ينمو رُغمًا عن الكل، سينمو كالعشب فوق ركام مدينةٍ، ورغم أنف الثعالب..
نفترِقُ الآن، ولن تتفتَّت أبديَّتُنا في الحب، سيظلُّ أملنا يقاتل كالطير، وسيستَمرُّ في التحليق عكس الريح والعواصف، غير مبالٍ بريشِهِ الذي يتطاير..
ثم قام يوسف بحذف تدوينته، ليشرَع بكتابة تدوينة جديدة، لكن الوقت لم يُسعفه، فلقد جاء صوتٌ من بعيدٍ يقسم ظهر خُلوته، قَرعُ جرسِ البيت، يحمل أخبارًا جديدة.
يوسف.. البقية في حياتك، أخوك قد مات مقتولًا!
لوهلةٍ ظلَّ صامتًا، كما لو أنَّه نسيَ أنَّ لديه أخًا. لم يعرف كيف يتصرَّف من جديد، وجد رفاق أخيه يصطحبونه إلى المُستشفى ليُلقيَ نظرةً أخيرةً على أخيه، وليُصلُّوا عليه في المسجد، ثم ليذهبوا إلى المقبرة ويدفنوه.
شعر بشيءٍ من العجز مرةً أُخرى، لا يقوى على أن يحزن، ورابطة الدم تحثُّه على الحزن، لكنَّه بكى، بكى شفقةً على نفسه، ليس حزنًا على أخيه.
كانت كل القصص التي رواها رفاق أخيه حول موته تصلُ إلى إدراكه مُفسَّرة وجاهزة، لم يكن بحاجةٍ لطاقةٍ يفكِّر بها، فمصطفى في نظرهِ لم يمت شهيدًا، بل مات كالأضاحي والقرابين. صار يُشفق على أخيه محزونًا على نهايته، مقتل أخيه كان القشَّة التي قسمت ظهر البعير.
أدرك أنَّ هُناك علاقةً لا يستطيع أن يُنكرها، علاقةٌ بين مقتلِ أخيه واغتيال بنات عمِّ مريم. وفاة أخيه جعلته يتفهَّم شُعور مريم مرةً أُخرى، مريم الأنثى التي لم تتخلَّ عن أهلها، كما لم تتخلَّ عنه، لكنَّها الظروف هي التي تستحقُّ أن يَغتابها..
تمنى لو أنَّه يراها ليعتذر، تمنى لعينيه أن تبكي حتى العمى، كل هذا أثار عزيمته على الرحيل.
مرَّ أسبوعٌ على مقتل أخيه، كان يحاول الوصول إلى مريم، لكنَّها أحكمت إغلاق كل الطرق في وجهه، جعلَهُ ذلك يستعجل إجراءات السفر.
قبل هذه الأحداث، كان قد قدَّم طلبًا للحصول على تأشيرةٍ لدخول جمهوريَّة مصر عن طريق مكتبٍ سياحي، ذهب إلى ذلك المكتب يستفسر عن مصير التأشيرة، كانت جاهزة في المكتب منذ يومين، وبوسعه أن يسافر في أيِّ وقتٍ خلال أسبوعين.
سأل يوسف موظف المكتب: هل يمكنني السفر غدًا؟
رد الموظف: نعم أستطيع أن أتدبَّر لك الأمر، لدينا موظف في المعبر يستطيع أن يسهِّل لك السفر، لكن سيكلِّفك ذلك مبلغًا من المال..
أبدى يوسف موافقته، وأعطاه عنوان منزله، كي تأتي سيَّارة المكتب في الصباح وتُقلَّه من أمام منزله إلى المعبر. كان يوسف قد أوكل إجراءات بيع بيته لمحامٍ كان زميلًا له في المدرسة.
مع الساعات الأولى للصباح، صار يوسف في قاعة الانتظار في الجانب الفلسطيني من معبر رفح، مُمسكًا بهاتفه المحمول، محاولًا الاتِّصال بمريم، ويتمنى بأعماقه أيَّ معجزة تغيِّر مسيرة أحداث هذا اليوم. تمنى أن تظهر له كما في الأفلام، تقول: عُد...لا تسافر..
والآن، ها هو يفتح عينيه مجدَّدا، ليرى نفسه صاعدًا إلى الحافلة استعدادًا لدخول الأراضي المصريَّة. شعر أنَّه يُلقي بنفسِه في حافلة للحزن، يتساءل بحزن:
لماذا؟ إلى أين؟ ومن أجل ماذا؟ وكيف؟... هل أخطأت؟
آه.. ألا يوجد أحدٌ يمسك يديَّ ويأمرني؟ يا أصدقائي فليأتِ أحدكم ويصرخ في وجهي قائلًا كفَّ عن الهروب، فلست بحاجةٍ إلى السفر.
لكن لقد حلَّ الرحيل.. تحرَّكت الحافلة، وصار أمام بوابة رفح المصريَّة، لا يفصله عن الهروب سوى عشرُ دقائق على الأكثر. شعر أنَّه تورَّط بوداع نفسه.
كانت تجلس إلى جانبه امرأة عجوز، تضع سماعات الهاتف على أذنيها، نظر إليها بابتسامةٍ وذهولٍ في آن، فابتسمت له المرأة، وقالت له بصوت مرتفع: أتريد أن تسمع معي؟
فقال لها: يسعدني ذلك يا جدتي.
فردَّت عليه بعصبيَّة ساخرة: لستُ جدتك، انظر لوجهك، كآبةٌ عن ألف سنة.
ابتسم يوسف لردِّها، وتناول السماعتين، وهي تقول وفي عينها نظرةٌ قدسيَّةٌ للحياة: استمع لهذه الأغنية، ستزيح عنك همومك لتَعبُرَ بك مع الحالمين...
وضع السماعتين على أذنيه، كانت الأغنية لفيروز، مرةً أخرى فيروز، الصوت الذي لم يتخلَ عنه يومًا. اتّكأ على الكرسيِّ، سند رأسه إلى الشباك، وأغمض عينه، كانت فيروز...:
"في أمل... إيه في أمل
أوقات بيطلع من ملل
وأوقات بيرجع من شي حنين
لحظة تَ يخفّف زعل
وبيذكّرني فيك لون شبابيك
بس ما بينسّيني شو حصل"
تحركت الحافلة استعدادًا لدخول الأراضي المصريَّة.. لم يشعر يوسف بذلك، فقد كان غارقًا بتأمُّل مفردات الأغنية، وصوت فيروز يلامس زغب قلبه.
دخلت الحافلة مترًا ونصفًا إلى داخل الأراضي المصرية، لكنَّها توقَّفت فجأة. أحدٌ ما هنا، لا يعلم أحد ما سبب التوقف، هل هي إشارةٌ من جنديٍّ مصري، أم من مسؤول في الجانب الفلسطيني.
فُتح باب الحافلة الأمامي، لم يُبدِ يوسف لذلك أيَّ اهتمام، دخل أحدهم الحافلة، لم يستطع يوسف أن يعرف من الذي دخل، وهل هو رجلُ أم امرأة،، فقد صعد من الباب مباشرة ليتحدث مع سائق الحافلة
كلُّ هذا لم يثر شيئًا من اهتمام يوسف، لذلك بقي ساندًا رأسه على النافذة، مأخوذًا بصوت فيروز.
علا صوت السائق مناديا: هل هناك أحدٌ اسمه يوسف، يوسف لو سمحت تفضَّل إلى هنا.
لكن يوسف لم يسمع شيئًا، فقد كانت السماعتان تصمَّان أُذنيه عن أيِّ صوتٍ خارجي، لكنَّ الذي دخل بدأ ينادي أيضا، ويبحث عن يوسف بين الركاب.
يوسف، يوسف، يوسف..
صارت العجوز تضحك بعنفوانٍ كالمراهقات، أثارت ضِحكتها انتباه جميع من في الحافلة، وفجأة بدأت تصفِّق ثم بدأت تلوِّح بيديها وتغني:
"في أمل... إيه في أمل، أوقات بيطلع من ملل"
في أمل......